خلق السماوات والأرض:
في هذا المجال يقدم القرآن للناس حقائق أساسية عن عملية خلق هذا الكون وما فيه، فنعلم أنه:
– في البدء كان الكل شيئًا واحدًا، فحـدث الانفجار العظيم الذي خلق عوالم متكاثرة: { أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء: 30]. لقد نشرت صحيفة «إندبندنت» البريطانية يوم الثلاثاء 28 إبريل 1992م رسالة من أحد قرائها البريطانيـين في باب «بريد القراء» ترجمتها صحيفة «الأهرام» القاهرية، ونشرتها بتاريخ 1/5/1992م كالآتي:
من الدكتور ب. م – دودهي: سيدي، هكذا عثر العلماء على برهان يؤكد نظريتهم عن «الانفجار الكبير» (حول بداية الكون)، أليسا مدهشًا أنهم لم يفعلوا إلا أن أكدوا ما قاله القرآن منذ حوالي 1400 سنة.
فقد جاء في الآية 30 من سورة الأنبياء ما نصه: { أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ }.
أليس رائعًا أن يبسط القرآن في آية قصيرة واحدة حقيقة نظريات (الانفجار الكبير) وخلق الحياة.
توقيع: ب. م.
دودهي إيكنهان ميدلسكس
ولا تعقيب هنا إلا بالتذكير بقول الحق في القرآن الكريم: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت: 53].
– والكون يتسع ويتمدد إلى أن يقضي اللَّه أمرًا كان مفعولاً: { وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47]. والنجوم في السماء على أبعاد سحيقة، لا يعلم قدرها بعد اللَّه إلا أولو العلم: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [الواقعة: 75- 80].
– وشكل الأرض شبه كروي، فهي كالأدحية، قريب من الجسم البيضاوي: { وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30].
فالأرض ليست تامة الكروية بسبب اختلاف طولي قطريها الاستوائي (الأكبر) والقطبي (الأصغر)، لكن الشكل العام لها يبدو كرويًّا من بعيد: { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } [الزمر: 5].
فمن المعلوم أن النهار يتجلى نتيجة لتشتت ضوء الشمس الساقط على جسيمات الغلاف الجوي المحيط بالأرض، إذ يعتبر قشرة تحيط بها من الهباءات والذرات: والليل والنهار متعاقبان بسبب دوران الأرض حول محورها أمام الشمس، ويحدثان في الغلاف الجوي للأرض باستمرارية حثيثة، ومن ثَم يكون تكويرهما إشارة إلى تكوير الغلاف الجوي – مكان تخليقهما – وبالتالي يكون إشارة إلى استنباط كروية الأرض.
فمعاجم اللغة تقول: (كار الرجل العمامة: أدارها على رأسه، وكل دور كور، ويقال: كورت الشيء، إذا لففته على جهة الاستدارة).
– وللأرض حركة سَبْح في الفضاء على العكس مما يحسبه الإنسان، فحين يقف أمام جبل يحسبه جامدًا في مكانه، لكن القرآن يقرر بوضوح أن الجبال – وهي من المعالم الرئيسية في الأرض – تمر مر السحاب، ومن ثم لا بد أن تكون الأرض التي تحمل هذه الجبال تمر مر السحاب: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً(1) وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } [النمل: 88].
وصعود الإنسان في طبقات الجو العليا، دون احتياطات من أخطار هذا الصعود، يعرضه إلى خلل في أداء الوظائف الحيوية ينتج عنه شعور بالضيق الشديد وغثيان وآلام حادة ونزيف، ويشير القرآن إلى ما يصيب الإنسان أثناء صعوده في طبقات الجو العليا، فيقول: { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 125].
الرياح وحركة الحياة:
تُعَرَّف الرياح بأنها حركة الهواء بالنسبة لسطح الأرض (يابسة وماء)، وتتعرض الأجزاء المختلفة من سطح الأرض إلى مقادير غير متساوية من حرارة الشمس بسبب دوران الأرض وميل محورها وتغير موضعها بالنسبة للشمس أثناء السنة وبسبب اختلاف توزيع مناطق اليابسة والماء، ويؤدي هذا إلى نشوء تيارات الحمل على نطاق واسع حول الكرة الأرضية على شكل أحزمة، ولا سيما فوق خط الاستواء، فتتعرض المناطق التي تتجمع عندها الرياح لصعود في الضغط مصحوب بالسحب والأمطار، بينما تتعرض المناطق التي تبتعد عنها الرياح لانخفاض في الضغط فتنعدم السحب والأمطار وتتكون بذلك الصحاري، وهكذا تتحكم الرياح في شكل الحياة على الأرض بتحكمها في مياه الأمطار.
وحين نذهب إلى القرآن، نجد توافقًا تامًّا بين ما يقوله عن أهمية الرياح في إدارة ماكينة الحياة وبين ما يقوله العلم الحديث، فلقد أكد القرآن في آيات كثيرة تلك الأهمية، وقرر أن إرسال الرياح وتصريفها إنما هي من أعمال اللَّه المباشرة من أجل استمرارية الحياة على الأرض.
فالحق سبحانه وتعالى يقول: { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الروم: 48].
{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 57].
وللرياح تأثيراتها المباشرة في عمليات التلقيح في الطبيعة وتكوين الأجنة المائية التي تكبر تدريجيًّا مكونة قطيرات السحابة ومن ثم قطرات المطر، وكذلك تكوين الأجنة النباتية التي تنتج الثمار: { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [الحجر: 22].
ولهذا أشار القرآن إلى أن تصريف الرياح يعتبر في حد ذاته آية من آيات اللَّه الظاهرة في هذه الحياة: { وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة: 164].
خلق الإنسان:
بدأ علم الأجنة في أوربا متأخرًا جدًّا، فكانت بداية بحوثه العلمية في النصف الثاني من القرن السابع عشر، ويعرض لنا الدكتور كيث بور – أستاذ علم الأجنة بجامعة تورنتو – في مؤلفه المشهور: «الإنسان المتطور»، نبذة تاريخية لبحوث الأجنة فيقول: (في عام 1651م قام هارفى بدراسة أجنّة الدجاج باستخدام عدسات بسيطة، وتوصل إلى القول بأن الأجنة جاءت من إفرازات الرحم، وفي عام 1677 استخدم العالمان هام وليفين هوك ميكروسكوبًا متطورًا رأيا من خلاله الحيوان المنوي الذكري، إلا أنهما لم يفهما دوره في عمليات الإخصاب، فقد ظنا أنه يحتوي على جنين مصغر للإنسان (وبذلك لا دخل للمرأة في تكوين الجنين، وتسمى هذه النظرية: نظرية التخليق المسبق).
وقد انقضى الجدال نهائيًّا حول نظرية التخليق المسبق حوالي عام 1775 عندما بين سبالا نزاني أن كلاًّ من بويضة الأنثى والحيوان المنوي الذكري ضروري لتكوين الجنين.
(وفي عام 1875 تمكن هيرتويج من ملاحظة كيف يلقح الحيوان المنوي البويضة، وأثبتت بذلك أن كلاًّ من الحيوان المنوي والبويضة يسهمان في تكوين البويضة الملقحة (الزيجوت)، وكان بذلك أول إنسان يشاهد عملية التلقيح هذه ويصفها.
وفي عام 1883 تمكن فان بندن من إثبات أن كلاًّ من البويضة والحيوان المنوي يساهمان بالتساوي في تكوين البويضة الملقحة.
وقد أثبت بوفري عام 1888 وعام 1909 أن هذه الكروموسومات تنقسم وتحمل خصائص وراثية.
وهكذا يبدو بوضوح أن الإنسانية لم تعرف بواسطة علومها التجريبية أن الجنين الإنساني (أو الحيواني) يتكون بامتشاج واختلاط نطفة الذكر ونطفة الأنثى إلا في القرن التاسع عشر، ولم يتأكد لها ذلك إلا في القرن العشرين). [خلق الإنسان بين الطب والقرآن: الدكتور محمد علي البار].
أما على الجانب الآخر فنجد أن هذه المعلومات الأساسية حول خلق الإنسان في متناول كل مسلم يقرأ القرآن، يعرفها الصبي الذي يتتلمذ على يد معلم للقرآن، كما يعرفها البدوي الذي حفظ شيئًا من آيات القرآن.
فلقد جاءت أول آيات القرآن نزولاً تحدث الناس عن خلق الإنسان، فتقول: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق: 1، 2].
ويبين القرآن الكريم أن الإنسان خلق من اختلاط نطفتي الجنسين ؛ الذكر والأنثى: { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [الإنسان: 2].
ولقد بين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في إجابته ليهودي سأله عما إذا كان تخليق الإنسان من الرجل أم من المرأة، فقال له: «يا يهودي، من كل يخلق، من نطفة الرجل ونطفة المرأة». [أخرجه الإمام أحمد في «مسنده»].
وأن الإنسان في بطن أمه يمر بأطوار مختلفة: { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [الزمر: 6].
{ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } [نوح: 13، 14].
ثم يفصل القرآن ما أجمله عن خلق الإنسان فيقول: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 12- 14].
إن من المعلوم أن ترجمة القرآن إلى اللاتينية بدأت في القرن الثاني عشر الميلادي، ولو حاول الأوربيون الذين يقرءون اللاتينية – وهم قليل في تلك العصور المظلمة – أن ينظروا في القرآن نظرة موضوعية تتسم بحيدة العالِم المدقق لعرفت أوربا مبكرًا مبادئ خلق الإنسان التي أوردها القرآن بوضوح، ولبدأ علم الأجنة فيها مبكرًا قبل سبعة قرون، ولكنه التعصب الأعمى والضلالات المتوارثة هي التي فعلت فعلها عبر القرون وعطلت تقدم الإنسان.
إن ما في القرآن الكريم من حقائق علمية – ينفرد بها عن سواه من كتب مقدسة أخرى – ليقطع بأنه كلمة اللَّه الأخيرة إلى الناس كافة: { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } [الحج: 54، 55].
إن هذا قليل من كثير، وإيجاز شديد من غير شرح أو تفصيل، لبعض ما يمكن عرضه من مظاهر الإعجاز العلمي للقرآن فيما يتعلق بخلق الكون والحياة.
واللَّه من وراء القصد.
بقلم اللواء مهندس: أحمد عبد الوهاب


