الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله تعالى، فإن الدعوة إلى الله تعالى هي أفضل وظائف المسلم ؛ لقوله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [يوسف: 108].
وإن جماعة أنصار السنة المحمدية بمنابرها تضرع إلى الله سبحانه أن يجعلها على السبيل الذي يرضاه الله سبحانه، ومن أهم منابر الجماعة مجلة التوحيد، ونحن نأمل أن تتفاعل مجلة التوحيد مع كل مسلم فيما يعنيه، وأن تعالج كل موقف بما يناسبه، حيث تمر على القارئ مناسبات زمانية يَحْسُن الحديث عنها، سواء كان الحديث بيانًا لأحكام مشروعة كالصيام في رمضان، والحج في أشهر الحج، أو كان لتفنيد بدع كبدعة الاحتفال بالمولد النبوي، ونفي مزاعم مشتهرة كاعتقاد الناس أن الهجرة كانت في المحرم، أو تحديد مواسم غير دقيقة لأحداث صحيحة كالإسراء والمعراج وتحويل القبلة وغير ذلك من الأمور الشرعية والتاريخية.
لكن تأتي الأحداث المتلاحقة التي ينتظر القارئ لها توضيحًا ليقرأ فيها حكمًا شرعيًّا يتعرف من خلالها على موقف إسلامي في ذلك الحدث.
هذا، والإسلام دين كامل، فالمشركون قديمًا كان يتعجبون من كمال الإسلام ودقته، كما أخرج مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: قال لنا المشركون قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة، فقال سلمان: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو نستنجي باليمين أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو نستنجي برجيع أو عظم، وتصديق ذلك في قول الله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [المائدة: 3].
وتلاحق الأحداث المتوالية التي تراها كقطع الليل المظلم وكموج البحر المتلاطم لا تكاد تنجو من واحدة حتى تحيط بك الأخرى ويعجز المصلح عن ملاحقتها ويتحير المسلم عندها، فما الحل إذن ؟ وما أحوج المسلم إلى الوقوف عند الصواب الذي يهتدي إليه من حيرته، ولا بد للحل أن يكون موجودًا في شرع الله ؛ لأن الله سبحانه أكمله وأتمه ورضيه.
أخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا دل أمته على ما يعلمه خيرًا لهم، ويحذرهم ما يعلمه شرًّا لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وإن آخرها سيصيبهم بلاء شديد وأمور تنكرونها تجيء فتن يرقق بعضها لبعض تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، ثم تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه، ثم تنكشف، فمن سره منكم أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه موتته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه».
وعن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «تكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف».
وإن الكثير من الناس يصيبهم الهلع والفزع ويخرجون معترضين عندما تظهر الفتن وتقع المخالفات وتتعالى منهم الأصوات، ثم سرعان ما تخفت هذه الأصوات، ويعودون إلى مثل ما كانوا عليه من اللهو والانشغال، بل أنكى وأشد: { فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 43]، قال تعالى: { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام: 28].
والمطلوب الوصول إلى أمر يجعل العاصي يرجع عن معصيته والغاوي عن غوايته، فمثلاً هذه الأحداث التي تنشرها الصحف بين الحين والآخر من تمرد داخل البيوت وصل إلى حد خروج المرأة عن طبيعتها الرقيقة وقوتها الضعيفة لتصبح هي الوحش الكاسر، أو اختلاسات الأموال العامة بأيدي الذين وكلتهم الأمة لرعايتها، أو تفشي الكتابات الداعرة أو الروايات الساخرة بكل ما هو جليل ومقدس تنشر من مؤسسات مكلفة بتصحيح وتنوير الناس، أو وقوع جماعة من الشباب تحت سيطرة فكر غريب مشبوه، يغذيهم به وسائل أوجدتها الأمة لتربية أبنائها.
فما وقعت حوادث النساء إلا عندما أصبحت المرأة تظهر بمفاتنها أمام أجنبي يدخل عليها ثم تقع الكوارث والطوام، وما تعلمت ذلك إلا من وسائل إعلام أو دور تعليم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال أهل الإفك في عائشة ما قالوا، قال للناس: «من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ولا غبت في سفر إلا غاب معي».
وهذا يدلنا أن تلك البلايا تقع من دخول الرجال على النساء بغير محرم ومن سفر الرجل بعيدًا عن أهله ودخول الرجال عليهن، فضلاً عن عدم اختيار البيوت المنبتة لذات الدين وإهمال تربية الأبناء تربية صحيحة.
تذكر أيها المسلم أن الله لما خلق آدم وأمر الشيطان أن يسجد له فأبى، طرده رب العزة سبحانه ولعنه، فسأل إبليس ربه: { رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الحجر: 36]، فأجابه رب العزة إلى سؤاله: { فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [الحجر: 37، 38]، عندئذ حلف الشيطان ليغوين بني آدم أجمعين، ومن يومها وهو يوسوس للناس فيستجيب له عصاة أو كفار أو منافقون.
من هذه الأحداث الشيطانية دفع الكفار حقدًا على الإسلام فيكتبون الإساءات للإسلام، أو يقع من منافقين يريدون الشهرة بالطعن في ذلك الدين يتملقون الكفار الذين رصدوا الجوائز السخية العالمية لأفضل من طعن في مقدسات الإسلام، ويفرح البلهاء عندما يسمعون باسم من أسماء العرب قد نال هذه الجائزة أو غيرها.
ثم تقوم المظاهرات عند حدوث هذه الأحداث وتتعالى الحناجر بالهتافات وتبح الأصوات من النداءات معلنة اللعنات على المجرمين من المنافقين والكافرين، ثم لا تمر أيام قليلة حتى يعود كل أمر إلى مكانه وتبقى المعاصي، بل قد تزيد، وما حدث هو أن اشتهر أهل الضلال بفجورهم وصاروا كأنهم ظاهرة يسلم الناس بوجودها ويقرأ العالم ما يكتب الكفار والمنافقون من قصص وروايات، والنتيجة أن تزداد هذه الأحداث حتى لا يخرج المسلم من واحدة حتى يدخل في أخرى، ومن عجب أنك عندما تسمع بقصة الإفك وأن الذي حمل كبرها وأوقد نارها وأشعل لهيبها وأوقع آخرين في حين أفلت هو، ترى اليوم كذلك يفلت من مثل هذه الأحداث من أغرى بنشر هذه الضلالات وأنفق عليها من أموال المسلمين التي جمعت من عرقهم وكدهم لتنشر الوعي في دينهم وتبصرهم بما ينفعهم في حياتهم.
واعلم أن الشيطان يعمل بحيله فيؤثر في الناس، بل ويجندهم لينفذوا ما يريده، ويمكننا أن نذكر من هؤلاء الذين حقق الشيطان بهم هدفه أربع طوائف: طائفتان ظاهرتان بعدائها، وطائفتان لا تظهر منهما العداوة وإن ظهرت آثارها.
الأولى: طائفة الكافرين الحاقدين، وهؤلاء يستخدمون كل أسلوب في ذلك لأنه لا يمنعهم خلق ولا دين، وهؤلاء الذين قال رب العزة عنهم: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الأنفال: 60]، فلا يرجعون إلا إذا رأوا قوة ظاهرة في المسلمين.
الثانية: طائفة العصاة وهم الذين دخلوا في أصل الإسلام، لكن الدنيا أغوتهم بزخرفها، وظنوا أن المعاصي التي يقومون بها يحصلون بها على سعادة ينشدونها، وهؤلاء هم الذين يؤذون المسلمين بعريهم وفسقهم ومعاصيهم، فينشرون الرذيلة يتبعون خطوات الشيطان، وهؤلاء ينبغي للمسلمين أن يذكروهم ويعظوهم بأن الأعمار قصيرة منتهية، وأنهم على الله معرضون ويذكروهم بنعم الله التي يعيشون فيها وأنه الخالق وأن مرد الناس إليه في يوم القيامة ؛ فإما جنة، وإما نار، مع التذكير بحال الأمم السابقة وأهل الكبر الذين قصمهم الله، وأن الله تعالى قال: { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر: 3].
أما القسم الثاني وهو الخفي الذي لا يعلن عن عدائه، فأحدهما يخفي العداء ويظهر الولاية هم المنافقون الذين ظهروا منذ غزوة بدر ولم تختف طائفتهم إلى اليوم وإن كانت أسماؤهم الإسلامية ولهجتهم هي العربية تبدو العداوة من أفواههم وعلى أعمالهم وتعرفهم في لحن القول وودهم للكافرين وهم يدافعون عن باطلهم في تواصل عجيب، فإذا نعق ناعق في المشرق تداعى له إخوانه في المغرب يريدون نشر الرذيلة ولا يستحون أن يتخذوا لذلك كل حيلة، فهم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فالله بيت لهم عذابًا أليمًا، فهم في النسب أبناء العرب، وفي القول والفكر أحفاد ابن سبأ، بل أحفاد قارون وهامان، إن عجزوا عن قول يريدونه أظهروا كأنهم يحكونه عن شخصيات خيالية، لا يحمل خيالهم إلا القمامات والنجاسات، يعيشون مع الخنازير في مأوى نتن، ولا ترتوي أقوالهم إلا من مستنقع آسن، تنتشي آذانهم لسماع فحش القول وسباب الخالق، يخافون من الناس ولا يخافون من رب الناس ؛ وذلك أنهم لا يؤمنون، والله يملي لهم، فإذا أخذهم فأخذ عزيز مقتدر، ومن ردد أقوالهم في حادثة الإفك أقيم عليه الحد بالجلد ثمانين، وإن أفلت من ذلك رأس المنافقين الذي بدأ الإفك وأظهره، فإن أهل النفاق يسعون ليردد الناس قولهم، حتى إذا قال بقولهم آخر وجد من يعضده، وإذا كان رب العزة يقول: { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [الأحزاب: 32]، فإن صاحب القلب المريض المنافق الذي يسمع قول المنافقين يسعده ترديد مثل هذه الأقوال فإذا صادفت قلبًا مريضًا تمكنت منه ورددته، فإذا كان من أهل النفاق والكفر من يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فما دون القرآن من أقوال الناس هو لهم مرتع خصيب يردده المنافقون ؛ لذا فإن من الغفلة عند المسلمين والغيورين أن يرددوا أقوال مرضى القلوب والمنافقين والجهلة والحاقدين الكافرين.
والفئة الثانية من القسم الثاني هم أناس مخلصون وأهل حماس ورغبة في العمل، إلا أنهم لما كثر سماعهم لأقوال الكافرين والمنافقين تأثروا، ولما نظروا في التقدم التقني ووسائل الدعاية والإعلان التي يستخدمها أهل الباطل للتزيين لباطلهم سرت روح الغيرة في قلوبهم، فقالوا في حماس: نريد أن نتقدم عليهم، وذلك يذكرني بما أخرجه الترمذي عن أبي واقد الليثي رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، ويقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } لتركبن سنن من قبلكم». فكان أبو واقد وأمثاله من أهل الحماسة حدثاء عهد بإسلام أراد ألا يمتاز عليهم أهل الجاهلية بشيء وظنوا أن ذلك نقص في دينهم، أو أن هذا يقوي الجند ونقصه يفت في عضدهم، وهكذا أهل الحماسة اليوم يصور لهم الشيطان أن الوسائل المستوردة الغربية من التهييج والتهريج هي التي ينتصر بها أهل الإسلام، حتى أنهم يعترضون على المواعظ التي يقوم بها الأئمة والخطباء ويقولون هذه مواعظ قديمة، نعم مواعظ قديمة ؛ لأنها قرآن وسنة، وهل يراد أن نتقدم بمواعظ من غير القرآن والسنة ؟ كيف ورب العزة يقول: { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [الأنفال: 24]، وهذه هي خطوات الشيطان يريد أن يستدرج بها الدعاة ليقوموا بالدعوة على غير الطريق الذي يرضاه رب العزة سبحانه، فيصبح أهل القرآن فقراء يتطفلون على موائد دعاة الكفر والعلمانيين فيسبقونا إليها ويأخذون بذلك يستدرجونا إلى منازلهم وأقوالهم، مع أن الله سبحانه أغنى دينه بشرعه وقدره عن سائر خلقه، فتبقى وظيفة من يدعو إلى الله الدعوة الحق شاغرة وإنما يريد الشيطان أن يوقف دعوة الرحمن ليبقى سائر الخلق له أعوانًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لذا فإن واجب الدعاة تنبيه الناس إلى أبواب الخطر وأنها تأتي من ترك الدعوة والتذكير بالقرآن والسنة ففيهما العصمة، وأنه لا فلاح ولا نجاح للأمة إلا أن يرجعوا إلى المساجد في الجماعات ودروس العلم والتعاون على البر والتقوى.
والله من وراء القصد.
وكتبه: محمد صفوت نور الدين


