{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ للإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى * وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى * إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا * فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 19: 30].
ثم تأخذ الآيات في بيان بطلان ألوهية كل ما سوى اللَّه، وإثبات أنه لا إله إلا اللَّه، أي: لا معبود بحق إلا اللَّه، فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}.
وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة وحوله فناء، مُعَظم عند أهل الطائف، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش، وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم اللَّه، فقالوا: اللات ؛ يعنون مؤنثة منه، تعالى اللَّه عن قولهم علوًّا كبيرًا. وكذا العُزّى من العزيز، وكانت شجرة عليها بناءً وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العُزّى ولا عُزّى لكم. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «قولوا: اللَّه مولانا ولا مولى لكم». [البخاري (4043)].
وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة.
وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر، تعظمها العرب كتعظيم الكعبة، غير هذه الثلاثة، وإنما أفردت هذه بالذكر ؛ لأنها أَشْهر من غيرها.
وكانت العرب قد وقعوا فيما وقع فيه اليهودُ والنصارى من نسبة الولد للَّه، تعالى اللَّه عن ذلك علوًّا كبير، {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَــــــهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171]. قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْــنُ اللَّـــهِ وَقَالَتْ النَّصَـــارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]، وأما مشركو العرب فقد نسبوا الولد للَّه، وجعلوا للَّه ما يكرهون من جنس الولد، وهو الأنثى، فقالوا: الملائكة بنات اللَّه، قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]، وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] كان العرب يحبون الذكور ويكرهون البنات، وربما حمل بُغْض البنت على وأدها ؛ أي دفنها حيّة، خوفًا من العار، أو خوفًا من الفقر، ومع كراهيتهم للبنات نسبوهن إلى اللَّه، فقال تعالى مُنَكرًا عليهم: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 57: 59]، وقال تعالى هنا: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} قسمة جائرة ظالمة، غير عادلة ولا منصفة، لو كانت بينكم وبين مثلكم من المخلوقين ما رضيها، فكيف باللَّه وهو الخالق الأحد الصمد، الذي لم يَلد ولم يُولد، ولم يكن له كفوًا أحد: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
{إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم} إن اللات والعزى ومناة إلا أسماء {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} التخمين، ما عندهم، ما معهم حجة، ما معهم برهان ؛ لأنه ما من الأنبياء نبي إلا دعى إلى توحيد اللَّه، وتنزيهه عن الولد والشريك، فعلام اعتمد المشركون في جعلهم الملائكة بنات اللَّه، {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى}، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] كما حكى ربنا عن ثمود.
ولقد كانوا يقولون عن أصنامهم: {هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} [يونس: 18]، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وليس معهم على ذلك برهان ولا دليل، وما هذا القول إلا أماني يمنيهموها الشيطان، كما قال تعالى عنه – لعنه اللَّه -: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} [النساء: 120]، وليس كل ما يتمنى الإنسان يكون ؛ ولذا قال تعالى: {أَمْ للإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} لا، ليس للإنسان ما يتمنى، وما نيل المطالب بالتمني، {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى}، فهو سبحانه المتصرف في الآخرة كما أنه المتصرف في الدنيا، فلا يجرؤ أحد في الآخرة على الكلام – مجرد الكلام – من غير إذن، فضلاً عن الشفاعة ؛ ولذا قال تعالى عن اليوم الآخر: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود: 105]، وقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]، فكيف يرجو المشركون شفاعة هذه الأصنام والحال ما ذكر.
{وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}، كم هنا للتكثير، {وَكَم مِّن مَّلَكٍ} من الملائكة الذين {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، و{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، ومع ذلك {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}، كما قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، ولذلك إذا كان يوم القيامة واشتد الهول وازداد الكرب، استشفع الناس بالأنبياء فكلهم يقول: لست لها لستُ لها، نفسي نفسي، كما في الحديث الطويل عن أبي هريرة قال: أُتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بلحم يومًا، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، فقال: «أنا سيّدُ الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك ؟ يجمع اللَّهُ يومَ القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه ؟ ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعضُ الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك اللَّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا، فيقولون: يا نوح، أنت أوّل الرسل إلى الأرض، وسمّاك اللَّه عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي اذهبوا إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي اللَّه وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يا موسى، أنت رسول اللَّه، فَضَّلك اللَّه برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألاترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى صلى الله عليه وسلم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضبْ قبله مثله، ولن يغضبَ بعده مثله، وإني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى صلى الله عليه وسلم، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول اللَّه، وكَلَّمت الناس في المهد، وكلمةٌ منه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى صلى الله عليه وسلم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبًا، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول اللَّه وخاتم الأنبياء، وغفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح اللَّه عليَّ ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه لأحدٍ قبلي، ثم يُقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيُقال: يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب. والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بيْن مكة وبصرى».
بقلم: د. عبد العظيم بدوي


