{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [الطور: 1- 18].
سورة مكية، شأنها شأن السور المكية في الاهتمام بترسيخ العقيدة، وبيان أصول الدين وأركان الإيمان، وأهمها: الوحي، والوحدانية، والبعث بعد الموت، وقد استفتحت السورة بالقسم على براءة النبي صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن الضلال والغي، وأشارت إلى المُعلِّم الذي علّم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه رآه مرتين على أصل خلقته، ثم تحدثت السورة عن بطلان الآلهة المزعومة التي عُبدت من دون اللَّه، وخَصّتْ بالذكر مِن هذه الآلهة: اللات والعزى ومناة، ولقد كان العرب جعلوا لهذه الثلاثة تماثيل على هيئة إناث، وزعموا أنها بنات اللَّه، تعالى اللَّه عما قال الظالمون علوًّا كبيرًا، فأبطل اللَّه تعالى هذا الزعم، وبيّن لهم أنها لو كانت هذه القِسْمةُ بينهم وبين مخلوق آخر، وهي جعلُهم لأنفسهم الذكور، ولغيرهم الإناث، لكانت قسمة جائرة، غير منصفة، فكيف ارتضوا للَّه ما لا يرضونه لأنفسهم.
وكانوا يعتقدون أن هذه الآلهة شفعاؤهم عند اللَّه، فأبطل اللَّه هذا الاعتقاد، وبين لهم أن الملائكة المقربين الذين {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم: 26]، فكيف يرجون شفاعة الأصنام التي {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [النجم: 23] ؟!
ثم تحدثت السورة عن اليوم الآخر، وأن اللَّه يجزي كلّ نفس بما كسبت، وأنه: {لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ للإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 38، 39].
ثم ذكرت بعض آيات قدرة اللَّه وعظمته ووحدانيته، ثم خُتمت بالإنذار والوعيد: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 57، 58]، وأنكرت على المشركين إعراضهم عن هذا الحديث: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 59- 61].
* تفسير الآيات:
اختلف العلماء في النجم ؛ فقال بعضهم: هو الثريا، وقال بعضهم: هو الشعرى المذكور في آخر السورة في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم: 49]، وهو نجم كانت العرب تعظمه وتعبده من دون اللَّه، فأخبرهم اللَّه أنه سبحانه ربّ هذا الشعْرى، فهو أحقّ منه بالعبادة(1).
وقال بعضهم: هذا القسم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}، أشبه ما يكون بالقسم المذكور في قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75، 76]، فقالوا: المراد بمواقع النجوم القرآن في تنزيله منجمًا أي مفرقًا، فاللَّه سبحانه يقسم بكل نجم أي بكل جزء من القرآن وقت نزوله، وكلٌّ من هذه الأقوال له وجهٌ من الصحة.
فإذا قلنا: المراد بالنجم الثريّا أو الشعْرى، فيكون معنى القسم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}، أي: إذا سقط آخر الليل عند مجيء الفجر، وإذا قلنا بالقول الثالث فقد ذكرنا معناه، واللَّه أعلم بمراده.
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} هذا هو المقسم عليه. والرجل الضالّ هو الجاهل الذي يسير على غير طريق، ويعمل بغير علم. والرجل الغاوي هو العالِم الذي يخالف علمه عَمَلَه، فهو يعلم الحقّ ثم يخالفه إلى الباطل، ويعلم الخير ثم يخالفُه إلى الشرّ، ويعلم الهدى ثم يخالفه إلى الضلالة، والحالُ الأول حال النصارى، والثاني حال اليهود، والإسلام وسطٌ بين الطرفين ؛ ولذا أرشد أتباعه إلى الجمع بين العلم والعمل، فمن عَلِم وعَمل فذلك رباني، ومن عَمِلَ بغير علم فذلك ضالّ، ومن عَلِمَ ولم يَعْملْ فذلك غاوٍ، وقد شهد اللَّه لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه بريءٌ من الضلالة والغي، ومعناه: أنه عامل بعلم، فهو إذن على الصراط المستقيم {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 53]، وهو الصراط الذي أمرنا اللَّه أن نسأله أن يهدينا إليه في قوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} [الفاتحة: 6، 7] بالعلم والعمل، {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} وهم اليهود، علموا الحق فلم يعملوا به، {وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، وهم النصارى عملوا بغير علم، كما قال تعالى عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَــــــا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27].
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}، وإنما أوحي إليه علمٌ، فهو يعمل به ولا يخالفه، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ
الْهَوَى}، لا يتكلم حسب هواه، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}، فهو متبعٌ لا مبتدع، ومُبَلِّغٌ لا منشئ، {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ}، وهذا المُعلّم المشارُ إلى وصفه هنا قد صُرِّحَ به في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 192- 195]، كان جبريلُ عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فيدنو منه، ثم يقرأ عليه ما أمره اللَّه بقراءته من القرآن الكريم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخاف أن يَنْسَى شيئًا مما يقرؤه جبريل، فكان يستعجل بالقراءة خلف جبريل ليحفظ عنه، فنهاه اللَّه عن ذلك، فقال: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وتعهد له بجمع القرآن في صدره، فلا يتفلت منه شيء، فقال: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16- 18]، فلما نهى اللَّه نبيه عن القراءة خلف جبريل، وأمره بالتأني تكفل له بجمع القرآن الذي يسمعه كله في صدره فلا يغيب منه شيء، وبتعليمه قراءته كما قرأه جبريل، فلا يتغير منه شيء، وبتفهيمه معناه حتى يبينه للناس كما أراد اللَّه.
ومعنى {ذُو مِرَّةٍ} أي: ذو منظر حسن، وجَسَدٍ سليم قويّ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرّة سوي». [صحيح، رواه ابن ماجه (1839/589/1)، والنسائي (99/5)].
وقد وصف اللَّه جبريل في سورة أخرى بصفات أخرى، فقال: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 15- 21]، فهو عليه السلام أمين على ما حُمل، فلا يكون منه تغيير ولا تبديل.
{فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}، كان جبريلُ عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في هيئات وأشكال مختلفة، لم يأته في صورته التي خلقه اللَّه عليها، إلا مرتين: الأولى في مكة عند البيت الحرام من جهة أجياد، بينما النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت الحرام إذ رأى جبريل قد استوى في الأفق، له ستمائة جناح، قد سدّ بها الأفق، {ثُمَّ دَنَا} من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {فَتَدَلَّى}، {فَكَانَ} في اقترابه من رسول اللَّه {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}، والقوس معروف، فكان جبريل من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قاب قوسين، لا يزيد بل ربما ينقص، أو أدنى من القوسين، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} أي: فأوحى جبريل إلى محمد عبد اللَّه، أو: فأوحى اللَّه إلى عبده محمدٍ عن طريق جبريل ما أوحى، ولم يأت تفسير ما أوحي إليه هذه المرة، فلنسكت عما سكت عنه القرآن.
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل وله ستمائة جناح، وصدَّق قلبُه وبصره، فلم يشك في أن الذي رآه هو جبريل، أحيانًا ترى سوادًا أمامك، فتظن أنه فلان، لا تستطيع الجزم بأنه هو ؛ لبعده أو لعدم وضوح الرؤية، حتى إذا دنا منك وتأكدت منه صدَّق قلبك بصرك، أو كذبه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جبريل قد استوى بالأفق الأعلى، له ستمائة جناح {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، ولم يشك لحظة في أن هذا الذي يراه هو جبريل، {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} ؟ أفتجادلون محمدًا على ما يراه من جبريل، وما يأتيه من الوحي ؟ فعلى أي شيء تستندون ؟ كما قال تعالى في سورة الطور: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38] أي: يصعدون فيه إلى السماء، فيستمعون إلى الملأ الأعلى، فلم يسمعوا تكليف اللَّه لجبريل أن يأتيك، فهم إذن يكذبوك، {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} وهيهات.
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، هذه هي المرة الثانية التي رأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على أصل خِلْقته، وكانت {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} ليلة المعراج، والسدرة شجرة النبق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عند هذه السدرة: «ورقها كآذان الفِيَلَة، ونبقها كقلال هَجَر». [مسلم (162)].
وسميت سدرة المنتهى ؛ لأنها ينتهي إليها ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وقد ورد أنها في السماء السادسة أو السابعة {عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}.
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال صلى الله عليه وسلم: «فلما غشيها من أمر اللَّه ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق اللَّه يستطيع أن ينعتها من حسنها». [«صحيح مسلم»]
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}، قال العلماء: في هذه الآيات إشارة إلى أدب النبي صلى الله عليه وسلم، حيث لم يتعد إلى ما لم يؤذن له فيه، بل {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} يمينًا ولا شمالاً، {وما طغى}، وما زاد على ما أذن له فيه، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}، وهذه الآية الكريمة فيها تحقيق ما ذُكر في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1]، وإلى هنا ينتهي الكلام عن الوحي والرسالة، وكيف كان جبريلُ يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويُعلمه.
وللحديث بقية – إن شاء اللَّه تعالى – حول الآيات (19- 30) من سورة «النجم».
وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين.
بقلم الدكتور / عبد العظيم بدوي


