وقفات مع القصة في كتاب الله ..
قصة نوح ( عليه السلام) (الأولى)
بقلم فضيلة الشيخ عبد الرازق السيد عيد
إن الحمد لله نحمده سبحانه ونشكره ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبده ورسوله .
تقدمة : –
تكتسبُ قصةُ نوح عليه السلام أهميةً خاصةً لسببين :
الأول :
أن نوحًا عليه السلام واحد من خمسة رسل خصهم القرآن الكريم في موضعين منه بالذكر : الموضع الأول في سورة الأحزاب الآية رقم 7 : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) .
والموضع الثاني في الشورى الآية 13 : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى …) ، وهذا التخصيص بالذكر استنبط منه العلماء أن هؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل وهو : نوح – وإبراهيم – وموسى – وعيسى – ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قال :
وخمسة منهم أولو العزم الأولى
في سورة الأحزاب والشورى تلا
فنوح عليه السلام من أولي العزم الذين صبروا على أذى أقوامهم ، فقد تحمل عليه السلام العنت والسفاهة والتطاول والسُّخرية من قومه وصبر ، يدعوهم ليلاً ونهارًا وسرًا وإعلانًا ألف سنة إلا خمسين عامًا .
الأمر الثاني :
أن نوحًا عليه السلام أول رسول إلى البشرية بعد انحرافها عن طريق الإسلام ، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال : ( كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام) فلما اختلف الناس وشرعوا في الضلالة والكفر وعبادة الأصنام بعثه الله رحمة لهم بدعوتهم إلى توحيده سبحانه وإعادتهم إلى صراط الله المستقيم .
كيف تسلل الانحراف إلى قوم نوح : ظلت البشرية من عهد آدم عليه السلام إلى إدريس عليه السلام مستقيمة على دين الله حيث يتوارث الناس العلم عن الأنبياء جيلاً بعد جيل حتى إذا مات إدريس ومات الصالحون من بعده وارتفع العلم بموتهم وعمَّ الجهل جاء الشيطان إلى رءوس جهال فأوحى إليهم ضالاً مضلاً ، والقصة كما رواها البخاري وغيره وفي تفسير قوله تعالى : ( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )[نوح :23] قال ابن عباس : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تُعبَد ، حتى إذا هلك أولئك وانتسخ العلم عُبدَت .
وهكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة ومحمد بن إسحاق .
وقال ابن جرير في تفسيره من رواية محمد بن قيس قال : كانوا قومًا صالحين بين آدم ونوح ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صوِّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر فعبدوهم .
وقد جمع ابن كثير رحمه الله في كتابه – قصص الأنبياء – بين الروايات الواردة وقال : ( وذكر أنه لما تطاولت العهود والأزمان ، جعلوا تلك الصور تماثيل مجسدة ليكون أثبت لها ، ثم عُبدتْ بعد ذلك من دون الله عز وجل ) .
والآن ننظر كيف استدرج الشيطان أولياءه من الجهال وبدأ بهم بتصوير الصالحين وتعليق الصور في أماكن العبادة ليكون كما ذكروا – أشوق لنا إلى العبادة – ثم نصبوا لهم تماثيل وجعلوها في كل بيت ، ثم جاءت المرحلة الأخيرة فعبدوهم وأصرُّوا على عبادتهم ( ( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) .
وهكذا تدرج الشيطان معهم من التشوق بهم ، ثم إلى التوسل بهم ، ثم إلى عبادتهم من دون الله ، وهكذا يفعل الشيطان بأوليائه في كل زمان ومكان .
قال ابن عباس في رواية البخاري السابقة :(وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد) وصارت في غيرهم بكيد الشياطين وأوليائهم في كل زمان ومكان ، ولعل المتأمل الآن يدرك سر تشجيع الاستعمار للصوفية في البلاد التي ابتُليت به قرونُا ، وكيف كان يقيس الإنجليز مدة بقائهم في مصر بكثرة عدد زوار السيد البدوي في طنطا وغيره من الأضرحة فهذا التديُّن المنحرف أصل كل بلاء .
دعوة نوح عليه السلام :
رأينا كيف بدأ خطُّ الانحراف في تاريخ البشرية . بدأ بالانحراف في العقيدة ، ثم تبعه انحراف في السلوك وفي الأخلاق (لأن العقيدة الإسلامية ، هي أساس البناء التشريعي ، إذ لا يتم بناء ما لم يكن هناك أساس قوي يُبنى عليه هذا التشريع ، فلا يمكن أمر الناس بطاعة الله تعالى وعبادته ،


