من روائع الماضي
معنى حب رسول الله
فضيلة الشيخ / محمد محيى الدين عبد الحميد
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، قال الله تعالى : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [ التوبة : 128] .
أيها السادة ؛ إن كل مسلم يدعي حب الرسول صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه عندما يذكر اسمه أو وصفه ؛ ويشعر من لم يزر قبره الكريم بالعاطفة الثائرة تدعوه إلى زيارته ؛ وقد تدعوه هذه العاطفة الثائرة على أن يدخر من قوته وقوت عياله ليتيسر له مشاهدة قبر الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، فيتجشم أهوال السفر ومتاعب الحل والترحال ، وما إلى ذلك مما ليس بخفي على أحد ، فهل تظنون أن ذلك يدل على حب الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة ؟ وهل تظنون أن ذلك وحده مقبول عند هذا الرسول وعند الله الذي بعثه واصطفاه ؟ وهل تظنون أن حب الرسول صلى الله عليه وسلم شيء يوصل إليه بالصلاة عليه والتوق لزيارته ؟
أيها السادة ؛ إن الله لم يرسل هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤسس ملكًا ، ولا ليبني لنفسه ولآل بيته مجدًا مما يبنيه الناس ، وإنما بعثه لخير العالم كله ، ولمجد الناس أجمعين ، وقد جعل الله لحبه وحب رسوله علامات ودلائل ؛ فمن وجدت عنده هذه العلامات والدلائل كان محبًا صادقًا في حبه ، ومن لم توجد عنده هذه العلامات والدلائل فهو كاذب في حبه ، وإن سالت عبراته وتقطعت كبده تحرقًا لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ بل وإن زار الرسول صلى الله عليه وسلم وصلى عليه في كل حين ، بل وإن أظهر من دلائل الحب – مما لم يجعله الله ولا رسوله علامة ودليلاً – الشيء الكثير .
أيها السادة ؛ قال الله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) [ آل عمران : 31] ، وقال سبحانه : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [ النساء : 65] .
وروى أبو عبد الله البخاري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) ، فجعل الله تعالى علامة لحب الله وهي اتباع الرسول فيما جاء به عن ربه ، وليس معنى الاتباع شيئًا يخترعه الناس أو يصورونه لأنفسهم على ما يشتهون ، ولكنه المنصوص عليه في القرآن الكريم بقوله سبحانه : ( وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) [ الحشر : 7] ، فليس لأحد أن ينشئ عبادة ولا نوعًا من القربات لم يأذن الله به ولا رسوله ، وليس أن ينهى عن عبادة أو قربة أذن بها الله تعالى أو رسوله ، سواء أوضحت له أسرار هذه القربات وهذه العبادات أم خفي أمرها عليه ، وليس لأحد أن يجلس على أريكته ، ثم يأتيه الخبر الصادق عن الرسول ، صلوات الله عليه ، فيقول : كل ما طابق العقل ووافق قواعد العلوم أخذت به ، وكل ما لم يطابق العقل أو لم يوافق قواعد العلوم تركته ونبذته نبذ النواة ، ويأخذ في تعليل ذلك والاستدلال له بأن الدين لا يمكن أن يخالف العقل ، ولا أن يأتي بما لا يتفق وقواعد العلم الحديث ، فإن هذا وأمثاله من كلام الذي ظاهره فيما يبدو الحق ، ولكنه يدعو إلى أبطل باطل ويوقع في اللبس والجهالات .
نعم إن دين هذا النبي الأمين لا يأتي بما يخالف العقل ، ولا يأتي بما تأباه قواعد العلم الحديث ، ولكن أين العقل الصافي الذي خلصه الله تعالى من كدورات الجهالة والهوى وشوائب النقص وغلبة الشهوات ؟ أين العقل الذي اتسع أفق تفكيره في سداد وحكمة ، فصار ينظر إلى الشيء من نواحيه كلها بالقسط والدقة ، فلا تند عنه ناحية ولا تشذ ولا يغلبه الهوى ولا تميل به الشهوات ؟ أين العقل السالم من المؤثرات الخارجية من عادات وتقاليد موروثة وشائعة وما أشبه ذلك . وأين قواعد العلم الحديث التي جزم العقل بأنها صحيحة ، ثم جزم مع ذلك بأنها ستبقى صحيحة مدى الدهر ولا يمكن أن يطرأ عليها التغير ؟ متى وجد العقل المقيد بهذه القيود ومتى وجدت قواعد العلم المقيدة بهذه القيود أمكن أن نحكم بأن ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفًا لهذا العقل ولهذه القواعد ليس مما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن مادام العقل قاصرًا عن بلوغ هذا المدى ومادامت قواعد العلم لم تدعم بهذه التحوطات ، فليس لواحد منا ولا لجماعتنا أن تأبى التسليم بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، ورب أمر لم يظهر لنا وجه الصواب فيه إلى اليوم وستكشف الأيام عن وجه الصواب فيه ، وقد جعل الله من أهم أسس الإيمان أن نحتكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما ينشب بيننا من اختلاف ، ثم نرضى بحكمه ونخلص في هذا الرضا ، بحيث لا يتطرق إلى قلب أحدنا الشك في صحة


