باب التفسير
بقلم الدكتور : عبد العظيم بدوي
لماذا يُحج البيت ؟!
قال تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ(96)فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) [ آل عمران: 97] .
هاتان آيتان من سورة ( آل عمران ) ، فرض الله بنهايتهما حج البيت على من استطاع إليه سبيلاً ، وخص بدايتهما بذكر فضائل هذا البيت التي بها استحق أن يُقصد – دون غيره – للحج ، فلنبدأ بما بدأ الله به ، فنقول : إن الله تعالى فضل بعض مخلوقاته على بعض ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ، وعمّ هذا التفضيلُ الإنسان والحيوان والجمادات ، ومن هذا تفضيله سبحانه وتعالى للبلد الحرام – مكة – على سائر البلاد ، وتفضيله للمسجد الحرام على سائر المساجد ، ومن فضائل البلد الحرام أن الله تعالى أقسم به في موضعين من كتابه ، فقال سبحانه : ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ(1)وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) [ البلد : 1 ، 2] ، وقال : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ(1) وَطُورِ سِينِينَ(2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) [ التين : 1 – 3] ، وما أقسم به إلا لشرفه وفضله ، وكونه أحبُّ البلاد إليه ، كما في الحديث عن عبد الله بن عدي بن الحمراء ، رضي الله عنه ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته واقفٌ بالحزْورة – موضع بمكة – يقول : ( والله إنك لخيرُ أرض الله ، وأحبُّ أرض الله إلى الله ، والله لولا أني أُخرجت منك ما خرجت ) . [ صحيح ابن ماجه : (2523) ] .
ومن فضائله ما رواه الشيخان عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : ( إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه
لم يحمل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحلّ لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعضد شوكه ، ولا يُنفر صيده ، ولا يلتقط لقطته ، إلا من عرّفها ، ولا يُختلى خلاه ) . فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر ، فإنه لقينهم وبيوتهم ، فقال : ( إلا الإذخر ) .
ومن فضائل المسجد الحرام ؛ كونه أول بيت وضع للناس لذكر الله والصلاة والطواف والاعتكاف ، كما في الآية الكريمة ، وكما في ( الصحيحين ) عن أبي
ذر ، رضي الله عنه ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وُضع في الأرض ؟ فقال : ( المسجد الحرام ) . قلت : ثم أيّ ؟ قال : ( المسجد الأقصى ( .قلت : كم بينهما ؟ قال : ( أربعون عامًا ) .
ومنها كونه مباركًا .
قال الفخر الرازي ، رحمه الله : البركة لها معنيان : أحدهما : النمو والتزايد ، والثاني : البقاء والدوام .
يُقال : تبارك الله ؛ لثبوته لم يزل ، والبرْكة شبه الحوض لثبوت الماء فيها ، وبرك البعير : إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر .
فإن فسّرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه :
أحدها : أن الطاعات يزداد ثوابها فيه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، إلا المسجد الحرام ) . [ متفق عليه ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) . [ متفق عليه ] .
ومعلوم أنه لا أكثر من بركة ما يجلب المغفرة والرحمة .
وثانيها : قال القفال ، رحمه الله تعالى : ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى : ( يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ) [ القصص : 57] ، فيكون كقوله : ( إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) [ الإسراء : 1] .
وثالثها : أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة ، وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية ، وقلوبهم قدسية ، وأسرارهم نورانية ، وضمائرهم ربانية ، ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى ربها وتوجهت أجسادهم إلى تلك الكعبة الحسية ، ازدادت في قلوبهم الأنوار الإلهية : ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) [ النور : 35] .
وأما إن فسّرنا البركة بالدوام فهو أيضًا كذلك ؛ لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود ، وأيضًا الأرض كرة ، وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم ، وظهر لثان ، وعصر لثالث ، ومغرب لرابع ، وعشاء لخامس ، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء


