باب السنة
عمرة عائشة رضي الله عنها
الحلقة الأخيرة
بقلم الرئيس العام / محمد صفوت نور الدين
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد ، فنكمل حديثنا عن عمرة عائشة ، رضي الله تعالى عنها ، وملخص ما نُشر في العدد الماضي :
التعريف براوي الحديث عبد الرحمن بن أبي بكر ، رضي الله عنه ، والتعريف بحدود الكعبة وحدود الحرم ومواقيت الحج ، وفضل الحج والعمرة وأنهما من الجهاد ، وبيان أن عمرة التنعيم عمرة أهل مكة وليس لأهل الآفاق إلا عن عذر ، وسبب الإذن فيها لعائشة ، رضي الله عنها ، ثم شرعنا في سرد أقوال أهل العلم في عمرة عائشة ، وذكرنا طرفًا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه الله ، ونكمله في هذا العدد ، ثم نذكر كلام غيره من أهل العلم ، مع ذكر فوائد الحديث :
والمنصوص عن أحمد : أنه لا يستحب الإكثار من العمرة لا من مكة ولا غيرها ، بل يجعل بين العمرتين مدة ، ولو أنه مقدار ما ينبت فيه الشعر ويمكنه حلقه ، هذا لمن يخرج إلى ميقات بلده ويعتمر ، أما المقيم بمكة فكثرة الطواف بالبيت أفضل من العمرة المكية ، كما كان يفعل الصحابة إذا كانوا مقيمين بمكة ، كانوا يكثرون الطواف ولا يعتمرون عمرة مكية ، فإذا تبين أن العمرة المكية عقيب الحج مع الحج لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق العلماء ولا أحد من الصحابة إلا عائشة ، رضي الله عنها ، ولا كان خلفاؤه الراشدون يفعلونها امتنع أن يكون ذلك أفضل ، أما إذا أفرد الحج واعتمر عقيب ذلك من أدنى الحل ، فهذا الإفراد لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه الذين حجوا معه ، بل ولا غيرهم ، كيف يكون هو الأفضل مما فعلوه معه بأمره ، بل لم يعرف أن أحدًا اعتمر من مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عائشة لا في حجة الوداع ولا قبلها ولا بعدها ، بل هذه العمرة لا تجزئ عن عمرة الإسلام في أحد الروايتين عن أحمد وعند بعض أهل العلم أنها متعة .
أما إذا أراد أن يجمع بين النسكين في سفرة واحدة وقدم مكة في أشهر الحج ولم يسق الهدي فالتمتع أفضل له من أن يحج ويعتمر بعد ذلك من الحل ؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين حجوا معه ولم يسوقوا الهدي أمرهم جميعهم أن يحجوا هكذا .
ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر لا في رمضان ولا في غير رمضان ، والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من اعتمر بعد الحج بمكة إلا عائشة كما ذكر ، ولم يكن هذا من فعل الخلفاء الراشدين الذين استحبوا الإفراد من الصحابة ، إنما استحبوا أن يحج في سفرة ويعتمر في أخرى ، ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر عقيب ذلك عمرة مكية ، بل هذا لم يكونوا يفعلونه قط ، اللهم إلا أن يكون شيئًا نادرًا .
فمن كان بمكة من مستوطن أو مجاور أو قادم أو غيرهم فإن طوافه بالبيت أفضل له من العمرة ، وسواء خرج من ذلك إلى أدنى الحل وهو التنعيم الذي أحدث فيه المساجد التي تسمى (مساجد عائشة) ، أو أقصى الحل من جوانب الحرم (الجعرانة ، أو الحديبية) ، أو غير ذلك ، وهذا المتفق عليه بين سلف الأمة ، ما أعلم فيه مخالفًا من أئمة الإسلام في العمرة المكية ، أما العمرة من الميقات بأن يذهب إلى الميقات فيحرم منه أو يرجع إلى بلده ، ثم ينشئ السفر للعمرة ، فهذه ليست عمرة مكية ، بل هذه عمرة تامة .
فلا يستريب عالم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وآثار الصحابة والسلف أن الطواف أفضل من الاعتمار من مكة وترك الطواف ليس بمستحب ، بل المستحب هو الطواف دون الاعتمار ، بل الاعتمار فيه حينئذ بدعة لم يفعله السلف ولم يؤمر بها في الكتاب والسنة ، ولا قام دليل شرعي على استحبابها ، وما كان كذلك فهو من البدع المكروهة باتفاق العلماء .
ولهذا كان السلف والأئمة ينهون عن ذلك ، فروى سعيد في (سننه) عن طاووس ، وهو من أجل أصحاب ابن عباس ، قال : الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري أيؤجرون عليها أم يعذبون ؟ قيل فلم يُعذبون ؟ قال : لأنه يدع الطواف بالبيت ويخرج أربعة أميال ويجيء ، وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف ، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي من غير شيء . (انتهى كلام شيخ الإسلام) .
أما ابن القيم فكتب في (زاد المعاد) بشأن عمرة عائشة ، رضي الله عنها ، فقال : عائشة رضي الله عنها ، كانت إذا حجت – أي بعد حجتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – صبرت حتى يدخل المحرم ، ثم تحرم من ذي الحليفة فلم تكن تعتمر من أدنى الحل .
أقول : فهذه عائشة ، رضي الله عنها ، لم تعد لعمرتها من التنعيم بعد ذلك مع صعوبة السفر ووعورة الطريق بالنسبة لما عليه الحال اليوم .
وللناس في هذه العمرة التي أتت بها عائشة من التنعيم أربعة مسالك ، أحدها : أنها كانت زيادة تطيببًا لقلبها وجبرًا لها ، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حجها وعمرتها ، وكانت متمتعة ، ث


