من روائع الماضي
لفضيلة الشيخ / محمود شلتوت شيخ الأزهر ( رحمه الله )
الموالد للموتى … وضع الشمع والمناديل على مقاماتهم
وجه إلى فضيلته السؤال الآتي :
ما حكم الدين في إقامة الموالد للمشايخ ، ووضع الشمع والمناديل على مقاماتهم ؟
فأجاب : وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه ، ونفع الناس بقول الحق .
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على خاتم رسله محمد وعلى آله وصحبه .
الموالد : هي هذه الحفلات الصاخبة ، أو المجتمعات السوقية العامة ، التي ابتدعها المسلمون في عهودهم المتأخرة باسم تكريم الأولياء وإعلاء قدرهم ومكانتهم ، عن طريق تقديم القرابين ، وذبح النذور ، وإقامة حلقات الذكر ، وعن طريق الخطب ، والقصص ، والمناقب ، والأناشيد ، التي تصور حياة الولي ، وتصف تنقله في معارج الولاية ، وما يتحدث به الناس عنه ، ويضاف إليه من كشف وخوارق وكرامات .
تقام تلك الحفلات لأولياء المدن ، ولكثير من أولياء القرى ، وقد تقام حفلة الميلاد في السنة الواحدة للولي الواحد مرتين فأكثر ، ولهذه الموالد على العموم عشاق يضعونها في مصاف الشئون الدينية التي يتقربون بها إلى الله عن طريق الولي ، فيحفظون تواريخها ، ويهيئون طوال العام لها ، حتى إذا ما حل وقتها تراهم يحزمون أمتعتهم ، ويرتحلون بقضهم وقضيضهم ، برجالهم ونسائهم ، بشيوخهم وشبابهم ، ويلقون – بأحمالهم كما يقولون – على شيال الحمول صاحب المولد ، تاركين بيوتهم ومصالحهم في قراهم ومزارعهم ، مدة تتراوح بين أسبوع وأسبوعين .
والمشايخ الأولياء من جهة تعلق الناس بهم والعناية بموالدهم على قيم مختلفة ودرجات متفاوتة ، فمنهم من يعظم عند الناس جاهه ، ويمتد في نظرهم سلطانه .
ويتسع صدره لكل لون من ألوان الحياة ، ولكل رغبة من رغبات الطوائف ، حتى لقد ترى حفلات المقامرين والمقامرات ، بجانب حفلات المدمنين والمدمنات ، وبجانبها حفلات الذاكرين والذاكرات ، والخليعين والخليعات ، والراقصين والراقصات ، ويجوس خلال الجميع المتسولون والمتسولات ، والنشالون والنشالات ، وكل ذلك يصنع في الموالد ، وعليه تقام ، وإليها يهرع الناس باسم الولاية وتكريم المشايخ .
ومهما قال عشاق الموالد ، والمتكسبون بها ومروجوها – من أن فيها ذكر الله ، والمواعظ ، وفيها الصدقات ، وإطعام الفقراء – فإن بعض ما تراه فيها ويراه كل الناس ؛ من ألوان الفسوق ، وأنواع المخازي ، وصور التهتك ، والإسراف في المال ؛ ما يحتم على رجال الشئون الاجتماعية ، وقادة الإصلاح الخلقي والديني ، المبادرة بالعمل على إبطالها ومنعها ، ووضع حد لمخازيها ، وتطهير البلاد من وصمتها ، ولقد صارت بحق – لسكوت العلماء عنها ، ومشاركة رجال الحكم فيها – مباءة عامة تنتهك فيها الحرمات ، وتراق في جوانبها دماء الأعراض ، وتمسخ فيها وجوه العبادة ، وتستباح البدع والمنكرات ، ولا يقف فيها أرباب الدعارة عند مظهر أو مظهرين من مظاهر الدعارة العامة ، وإنما يبتكرون ويبتدعون ما شاء لهم الهوى من صور الدعارة المقوضة للخلق والفضيلة .
ومن أشد ما يؤلم المؤمن ؛ أن ترى كثيرًا من تلك المناظر الداعرة تُطوِّق في المدن معاهد العلم الديني ، ومساجد العبادة والتقوى ، على مسمع ومرأى من رجال الحكم ورجال الدين ، أرباب الدعوة والإرشاد .
أما وضع الشمع والمناديل على مقامات الأولياء وكسوتها ، فينبغي أن يعرف – أولاً - أن الدين الحق لا يعرف شيئًا يقال له : ( مقامات الأولياء ) ، سوى ما يكون للمؤمنين المتقين عند ربهم من درجات ، وإنما يعرف – كما يعرف الناس – أن لهم قبورًا ، وأن قبورهم كقبور سائر موتى المسلمين ، يحرم تشييدها وزخرفتها ، وإقامة المقاصير عليها ، وتحرم الصلاة فيها وإليها وعندها ، وبناء المساجد من أجلها ، والطواف بها ، ومناجاة من فيها ، والتمسح بجدرانها ، وتقبيلها والتعلق بها ، ويحرم وضع أستار وعمائم عليها ، ويحرم إيقاد شموع ، أو ثريات حولها ، وكل ذلك مما نرى ويتهافت الناس عليه ويتسابقون في فعله على أنه قربة لله ، أو تكريم للولي ، أو قربة لله وطاعة ، خروج عن حدود الدين ، ورجوع إلى ما كان عليه أهل الجاهلية الأولى ، وارتكاب لما حرمه الله ورسوله في العقيدة والعمل ، وإضاعة للأموال في غير فائدة ، بل في سبيل الشيطان ، وسبيل للتغرير بأرباب العقول الضعيفة ، واحتيال على سلب الأموال بالباطل .
أما بعد ؛ فهذا هو حكم الدين في الموالد ، وهذا هو حكمه فيما يصنع بمقامات الأولياء ، فمتى يتنبه المسلمون ويعودون إلى الهدي الحق ؟ ويتقربون إلى الله بما يرضاه الله بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتقرب به إليه أولياؤه ، الذين آمنوا وكانوا يتقون . و ( خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ) .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .


