اللهم ارحم الألباني واخلفنا خير منه
كتبه الشيخ /طارق العيسى
الحمد للَّه سبحانه ، عنده الخير كله عطاءً ومنحًا ، وهو سبحانه يدفع إذا شاء الشر كله عمن يشاء من خلقه تلطفًا ورحمة ، وهو الذي جعل هذه الأمة كالغيث لا يُدرى أولها خير أم آخرها ، وهو الذي يبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأُمة ما اندرس من دينها .
فلقد كان إلى وقت قريب جدًّا يقول كثير من الذين يهتمون بالمسائل الشرعية مقالة تصغير من الحديث والمشتغلين به ، وهي : الحديث صناعة المفاليس ، وإن السنة النبوية قد حظيت منذ وجود مسلمين حول النبي صلى الله عليه وسلم بالعناية الفائقة ، فكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن خلف جبريل متعجلاً حفظه خوفًا من أن ينساه ، فإن الصحابة كانوا يحفظون ما يسمعونه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويتثبتوا منه .
ومن أمثلة ذلك ما رواه البخاري عن البراء بن عازب ، رضي اللَّه عنهما ، قال : قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : (( إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل : اللهم أسلمت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت ، فإن مت ، مت على الفطرة ، فاجعلهن آخر ما تقول )) . فقلت : أستذكرهن : وبرسولك الذي أرسلت . قال : (( لا ، ونبيك الذي أرسلت )) .
ومثال ذلك أيضًا : حديث أنس عند البخاري أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه .
ومنه حديث البخاري أن أبا هريرة ، رضي اللَّه عنه ، قال : ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا مني ، إلا ما كان من عبد اللَّه بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب ، وحديثه أنه كان يلزم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ، ويحضر ما لا يحرون ، ويحفظ ما لا يحفظون .وإن ذَهاب العلماء من أشراط الساعة ؛ لحديث أنس بن مالك ، رضي اللَّه عنه ، قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : (( من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ، ويُبت الجهل ، ويُشرب الخمر ، ويظهر الزنا )) . أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد .
وعن ابن عباس ، رضي اللَّه عنهما : قال : أتدرون ما ذهاب العلم ، قلت : لا ، قال : ذهاب العلماء .
لقد عاش ، رحمه اللَّهُ ، مجاهدًا في سبيل اللَّه ينشر علمه من خلال مصنفاته وتحقيقاته وأشرطته ، التي لا تكاد تخلو منها مكتبة طالب علم ، حتى أصبح الشيخ الألباني الأعجميُّ آيةً من آيات علم الحديث في هذا القرن ، واللَّه إنها لمعجزة ، يهاجر من ألبانيا – مَسْقَط رأسه – وعمره تسعُ سنوات ليستقر في بلاد الشام ، هاربًا من حكم الشيوعيين الذي دنس بلاد البلقان بالإرهاب والإلحاد ؛ ليصبح – بفضل اللَّه ومنه وكرمه ورعايته – عالمًا من علماء الأمة في الحديث ، داعيًا إلى منهج الطائفة المنصورة التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم : (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا مَنْ خالفهم حتى تقوم الساعة )) .
إن المكانة التي اكتسبها شيخنا – رحمه اللَّه وأسكنه فسيح جناته – في قلوب الدعاة لدليل واضح على مكانة العلماء المخلصين المجاهدين العاملين بعلمهم ؛ مما يجعلنا نشتد حزنًا على فقده ، ونقول كما قال الحسنُ : قال عبد اللَّه بن مسعود : ( موتُ العالم ثُلْمة في الإسلام لا يسدُّها شيء ما طلع الليل النهار ) .
لقد كان رحمه اللَّه مرجعًا من المراجع العلمية التي ينهل منها طلبةُ العلم معينًا صافيًا ، فقد اكتسب ثقة الجميع ، فلا تكاد تخلو خطبة جمعة ولا رسالة ماجستير أو دكتوراة أو فتوى من حديث إلا وقد ذُيل بـ ( صححه الألباني ، أو حسنهُ الألباني ، أو ضعفه الألباني ) .
فكم من طالب علم اهتدى إلى الدعوة السلفية – دعوة الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح – بمجرد ما يستمع إلى إرشاده ونصيحته التي يُركزُ فيها على التمسك بهذين الأصلين العظيمين .
لقد اشتهر رحمه اللَّه بالاهتمام بتوجيه طلبة العلم إلى قاعدة عظيمة في أولويات الدعوة ؛ ألا وهي التصفية ( الاهتمام بتصفية التراث الإسلامي من الشوائب والبدع والانحرافات التي شوَّهت جمال الإسلام ) ، ثم التربية على المنهج السلفي .
لقد كنا نَتَشَوَّقُ إلى لقائه والاستماع له ؛ لما لحديثه من طلاوة وحجج بينة دامغة ، وكنا نشدُّ الرحال إلى الحرمين وبلاد الشام ؛ كي نستفتيه في مسألة من المسائل ؛ فنجده بحرًا من بحور العلم .
لقد كان حقًّا أحد العلماء المجددين في هذا القرن الذي انتشرت فيه البدع والفتن ومناهج أهل الأهواء ، فقيض اللَّه رجلاً كالألباني ، فكان كما قيل : ( العلماء في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ؛ بهم يهتدي الحيران في الظلماء ، وحاجةُ الناسُ إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب ، وطاعتهم أفرضُ من طاعة الأمهات والآباء )


