من روائع الماضي
أحسن ما قرأت
الإيمان واليوم الآخر
كتبه الشيخ / أبو الوفاء محمد درويش (رحمه الله)
إن الإيمان باليوم الآخر من أوثق أركان الإيمان ، وجميع الأديان السماوية تشترك في الدعوة إلى الإيمان به ؛ لأن الذي لا يؤمن بالبعث لا يتحرج عن مأثم ، ولا ينتهي عن منكر ، ولا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة ، ولا يرجو لله وقارًا ؛ لأنه لا يرجو ثوابًا ، ولا يخشى عقابًا ، وأكثر ما يحفز الناس إلى فعل الخير : رجاء الثواب ، وأكثر ما يزعهم عن اقتراف الشر خوف العقاب ، فإذا لم يرجو ثوابًا ، ولم يخشوا عقابًا لم يفعلوا خيرًا ، ولم ينتهوا عن شر .
وإذا كنا نرى كثيرًا ممن يدعون الإيمان بالبعث والجزاء ، يقترفون شر المنكرات بغير خجل ولا استحياء ، فكيف بمن لا يؤمن ببعث ولا جزاء ؟
الإيمان بعدل الله يقتضينا الإيمان بالبعث والجزاء ، لأننا نرى في الدنيا أشخاصًا طيبيين مستقيمين صالحين ، ولكن حظوظهم في الدنيا منقوصة يقاسون أحيانًا شظف العيش ، وذل الحاجة ، وأحيانًا يقاسون ألم المرض والحرمان من العافية ، وطورًا يضطهدهم الأشرار ، أو تعتريهم النكبات ، وتحل بهم الكوارث ، ونرى أشرارًا مستمتعين بالصحة والعافية والثراء الواسع والجاه العريض ، ويأبى عدل الله إلا أن يسوي بين عباده ، فمن فاته حظه في الدنيا لابد أن يناله في الآخرة ، ولابد أن يجزى الناس بأعمالهم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ، فإذا انقضى الأجل الذي كتبه الله لهذه الحياة نُفخ في الصور ، والنفخ في الصور حدث من أحداث القيامة لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى ، يترتب عليه تغير كلي في هذا العالم ، واضطراب في نظامه ، فتكور الشمس ، وتنكدر النجوم ، وتنشق السماء ، وتدكدك الأرض ، وتسير الجبال ، وتسجر البحار ، ويصعق من في السماوات والأرض ، ثم ينفخ فيه مرة أخرى ، فإذا هم قيام ينظرون ، فيحاسبهم الله ويزن أعمالهم بالقسط .
قال تعالى : ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [ الأعراف : 8] .
ولقد وصف الله تعالى ذلك اليوم وما فيه من جسام الأحداث أصدق وصف ، وصوره أروع تصوير ، فقال تعالى : ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ(71)قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(72)وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) [ الزمر : 71 – 73] .
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في وصف شقاء أهل الجحيم ، ونعيم أهل الجنة ، لا أطيل القول بإيرادها .
لم يطالبنا رب العزة جل ثناؤه بالإيمان بالبعث بغير أن يقيم لنا الأدلة الساطعة ، والبراهين الناصعة على قدرته تعالى عليه ، وعلى أن العقول السليمة تقره ولا تؤمن بسواه ، وعلى أنه من مقتضيات العدل ، وأن العدل لا يتم بدونه ، ولو لم يفصل لنا هذه الأدلة لم يكن إيماننا إيمانًا ، بل خضوعًا وإذعانًا ، ولكنه سبحانه اراد أن يكون إيماننا بالبعث والنشور عن اقتناع ويقين ، وطمأنينة قلب ، ومتانة عقد ؛ فذكر في كتابه العزيز – الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – الأدلة القاطعة التي لو تأملها المتأمل ، وتدبرها المتدبر ، لم تدع عنده مساغًا لشك ، ولا مجالاً لريبة ، ولملأت عقله يقينًا ، قلبه طمأنينة ، ونفسه سكينة ، وصدره ثلجًا .
قص الله تعالى ما كان من أمر ذلك الذي مر على قرية هامدة ليس فيها إلا العظام النخرة ، والفرات السحيق ، فتعاظمه الأمر ، وسأل نفسه سؤال من ملك عليه العجب أقطاره : كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها ؟ فأقنعه الله تعالى بالدليل العملي أن إعادتها إلى الحياة لا يعجز رب العزة القادر على كل شيء ، فاستمع إلى الآية الكريمة في روعة بلاغتها ، وجمال قصصها ، وبالغ إقناعها ، وناصع سلوكها ، يقول تعالى : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمّ


