باب السيرة
وقفات مع القصة في كتاب الله يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر
( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا )
بقلم : عبد الرزاق السيد عيد
الحمد لله الذي يتولى عباده الصالحين برحمته ، ويدفع عنهم كيد الكائدين بقدرته ، والصلاة والسلام على المصطفى رحمة وهداية للناس كافة ، وبعد :
رأينا في اللقاء السابق كيف راودت التي هو في بيتها فتاها عن نفسه ، وقد تدرجت في ذلك من مرحلة إلى أخرى ، فبدأت بعرض مفاتنها على يوسف ، عليه السلام ، مستخدمة ما تملك من وسائل ، وقد ساعدها على ما فعلت ما تمتعت به من منصب وجمال ، ولكنها لم تجد من يوسف ، عليه السلام ، اهتمامًا ولم يعرها انتباهًا ، فانتقلت إلى مرحلة أخرى ، فغلقت الأبواب ، ثم انتقلت إلى أسلوب التصريح المباشر ، ودعت يوسف ، عليه السلام ، إلى نفسها دعوة صريحة ، فقالت : ( هَيْتَ لَكَ ) ؛ أي تهيأت لك ، فقابل يوسف ، عليه السلام ، ذلك منها بموقف واضح قوي ، فقال : ( مَعَاذَ اللَّهِ ) .
من المناسب أن نتذكر ذلك جيدًا ونحن نقف وقفتنا الآن ، والتي ستكون – بعون الله - مع قوله تعالى : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) [ يوسف : 24] .
يرى بعض المفسرين أن المرأة عندما أسقط في يدها ولم يستجب لها يوسف ، عليه السلام ، همَّت لتنال منه ما أرادت عُنوة ، وهمَّ يوسف بدفعها ، ويرى البعض الآخر أنها همَّت بضربه انتقامًا لكبريائها المهدر ، وكرامتها المجروحة ، وهمَّ هو بضربها دفاعًا عن نفسه ، لكنه رأى أن الأولى أن يهرب منها ففعل ، وهنالك من يرى أن الهمَ كان منها فقط ، أما يوسف ، عليه السلام فلم يهم ؛ لأنه رأى برهان ربَّه على تقدير حذف جواب لولا ، فيكون التقدير : ( لولا أن رأى برهان ربَّه لهم بها ) ، لكنه رآه فلم يحدث منه هم أصلاً .
لكن جمهور المفسرين يثبت للمرأة همًّا ، وليوسف عليه السلام همًّا ، كما صرحت بذلك الآية : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) ، لكنهم يفرقون بين همها وهمه ، فقد كان همُّه خطرات نفس ، فتركه لله ، فأثابه الله عليه ، أما همُّها فكان إصرارًا بذلت معه جهدها فلم يستو الهمان ، وهذا واضح من السياق القرآني ، فقد فرَّق الله بين الهمين ، فهي راودت ، وغلقت الأبواب وقالت : هيت لك ، وهو قال : ( مَعَاذَ اللَّهِ ) ؛ ولذلك قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) لاحظ كيف استخدم السياق الكريم أدوات التوكيد والتحقيق مع همها ، ولم يستخدم شيئًا من ذلك مع همه ، فالهم همان : هم إصرار وعزيمة ، وهم خطرات ، فكان نصيبه الخطرات ، وكان نصيبها الإصرار .
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : ( الهمُّ همان : هم خطرات ، وهمُّ إصرار ، وهم الخطرات لا يؤاخذ الله به ، وهم الإصرار يؤاخذ به ) .
والأدلة على ذلك متواترة في الكتاب والسنة ، نذكر منها ما رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم من حديث ابن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك ، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة ، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة ) .
ويرجَّح شيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه الله ، رأي جمهور المفسرين وكذلك ابن القيم ، رحمه الله ، ويرى أن ذلك الذي يليق بفحولة يوسف ، عليه السلام ، كما يرى أن ذلك ابتلاء بمخالفة دواعي النفس والطبع ، وهو من أشد البلاء ، ولا يصبر عليه إلا الصديقون ، وإليك نص كلام ابن القيم ، رحمه الله ، من كتاب ( طريق الهجرتين ) بتصرف بسيط :
( ولهذا كان بين ابتلاء يوسف الصديق بما فعل به إخوته من الأذى والإلقاء في الجب ، وبيعه بيع العبيد ، والتفريق بينه وبين أبيه – كان بين ذلك كله – وابتلائه بمراودة المرأة فرق عظيم لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاء ، فهو – أي يوسف عليه السلام – شاب عزبٌ غريب بمنزلة العبد لها ، وهي الداعية إلى ذلك ، وإن الشباب داع إلى الشهوة ، والشاب قد يستحي من أهله ومعارفه من قضاء وطره ، فإذا صار في دار الغربة زال الاستحياء والاحتشام ، وإذا كان عزبًا كان أشد لشهوته ، وإذا كانت المرأة هي الطالبة كان أشد لشهوته ، وإذا كانت جميلة كان أعظم ، فإن كانت ذات منصب كان أقوى ، فإن كان ذلك في دارها وتحت حكمها ، بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة كان أبلغ ، فإن استوثقت بتغليق الأبواب والاحتفاظ من الداخل كان أقوى أيضًا ، فإن لرجل كمملوكها وهي كالحاكمة عليه الآمرة الناهية كان أبلغ في الداعي ، فإذا ك


