باب السيرة
اللقاء الأول بين يوسف عليه السلام وإخوته
بقلم الشيخ : عبد الرازق السيد عيد
الحمد لله الذي يصيب برحمته من يشاء ، ولا يضيع أجر المحسنين ، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، سيدنا محمد بن عبد الله وعلى من اقتفى أثره واتبع هداه . أما بعد :
أيها الأخ الكريم لعلك تذكر ما وقفنا عنده في اللقاء السابق ، حيث مكَّن الله ليوسف عليه السلام في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ، وولاه الملك على خزائن مصر وأقوات أهلها ، وصار ليوسف عليه السلام من المكانة عند الملك بحيث لا يصدر الملك نفسه أمرًا إلا بمشورة يوسف عليه السلام ، فصار يوسف عليه السلام وكأنه الحاكم الفعلي للبلاد .
ومرت سنوات واستقر الأمر فيها ليوسف عليه السلام وعمَّ الرخاء ، وساد العدل وانتشر السلام والإسلام في ربوع البلاد .
وبدأت سني القحط الذي لم يصب مصر وحدها ، بل أصاب مصر وجميع البلاد المجاورة ، وكانت مصر أحسن حالاً من غيرها ، بل كانت – في عنفوان الشدَّة – هي مصر القمح لجميع البلاد المجاورة ، ذلك بفضل الله ، ثم بفضل ما أولاه سبحانه ليوسف عليه السلام من حكمة في إدارة شئون البلاد ، واشتهر عدل يوسف عليه السلام في الآفاق ، وأخذت الوفود تتوافد على مصر من كل حدب وصوب طلبًا (للميرة) الطعام ، وممن وفد على يوسف عليه السلام في ذلك الحين إخوته من أبيه الذين جاءوا من الشام ، وهنا نبدأ معك بعون الله وحوله وطوله ومدده وقفتنا اليوم ، والتي ستكون كما يلي :
أولاً : ( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ(58)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ(59)فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ(60)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ) [ يوسف : 58 – 61] .
في قوله تعالى : ( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) :
قال ابن كثير ، رحمه الله : يخبر تعالى عن قدوم إخوة يوسف عليه السلام إلى الديار المصرية يمتارون طعامًا ، وذلك بعد إتيان سِنيِّ الجدبِ وعمومها على سائر البلاد والعباد ، وكان إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية دينًا ودنيا ، فلما دخلوا عليه عرفهم ولم يعرفوه ؛ لأنه لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه السلام من المكانة والعظمة ، فلهذا عرفهم وهم له منكرون . اهـ .
وصدق والله ابن كثير ، فلم يخطر ببال إخوة يوسف ما صار إليه أمر أخيهم الذي وضعوه بأيديهم في الجُبَ ولم ينصرفوا إلا بعد أن تأكدوا من القافلة وهي تحمله إلى حيث يصير عبدًا مملوكًا ، فكيف صار المملوك حاكمًا لأرض مصر ؟
ذلك لأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
دخل إخوة يوسف عليه كما يدخل عليه جميع الوفود بسهولة ويسر ، فليس له حجاب ولا حراس يمنعون الناس من الدخول عليه ، وذلك من تمام عدله ، فعرفهم يوسف ؛ لأنهم لم يتغيروا كثيرًا ، وهم لم يعرفوه لما صار عليه .
مع قوله تعالى : ( وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ(59)فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ) :
أكرم يوسف عليه السلام وفادة إخوته وأعْطَاهم ما يريدون من الطعام ، وزادهم إكرامًا ، ثم طلب منهم أن يأتوا بأخيه بنيامين في المرَّة القادمة ، فيوسف عليه السلام أراد أن يخصَّ أخاه بنيامين بخصوصية يتميز بها عن إخوته ؛ لأنه لم يشاركهم في مؤامرتهم الأولى ، فهو الأخ الشقيق ليوسف ، فأراد أن يضم يوسف أخاه إليه قبل إخوته ، فطلب منهم إحضاره تمهيدًا لما يريد ، ولأن يوسف يعرف منزلة أخيه عند أبيه وحرصه عليه بعد ذهاب يوسف ، ومن ذلك لا يسمح له بمفارقته لأنه يشم فيه ريح يوسف ، ويتسلى به عن فقد يوسف ، فالأمر حقًّا صعب ، ولذلك هدَّد يوسف عليه السلام إخوته قائلاً : ( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ) هددهم بمنع الطعام في المرَّة القادمة إن لم يكن معهم أخوهم ، وذلك حتى يحملهم على الإتيان به مهما كلفَّهم الأمر .
وكان إخوة يوسف على علم بصعوبة الأمر ، ولذلك قالوا : ( قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ) .
فقولهم : ( سَنُرَاوِدُ ) يشير إلى صعوبة الأمر ؛ لأن المراودة تكرار للطلب مرَّة بعد مرة ، وهم سيفعلون ذلك لحاجتهم إلى الطعام ، ولذلك قالوا : ( وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ) ، فاستخدموا التوكيد بـ (إن) ، واللام إشارة إلى حديثهم في الطلب واهتمامهم به مهم


