باب السيرة
وقفات مع القصة في كتاب الله
( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ )
فضيلة الشيخ / عبد الرازق السيد عيد
يقول تعالى : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا(54)وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) [ مريم : 54 ، 55] .
اذكر يا محمد وقص على قومك قصة أبيهم إسماعيل ، عليه السلام ، فمن هو إسماعيل ؟
روى مسلم في (صحيحه) من حديث واثلة بن الأسقع ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشًا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم ).
وإسماعيل ، عليه السلام ، هو بكْرُ إبراهيم الخليل من هاجر المصرية ، عليها السلام ، وهو أول من فتق لسانه بالعربية الفصيحة ، وهو أبو العرب المستعربة ، وأول من ركب الخيل ، وهو نبي ، ابن نبي ، أرسله الله إلى قومه من قبائل جرهم والعماليق وأهل اليمن ، فكان أول رسول في العرب من نسل إبراهيم ، عليه السلام ، ولم يأت بعده رسول فيهم إلا محمد ، صلوات ربي وسلامه عليه ، حيث ختم الله به رسالته ، وأتم ببعثته كلمته .
جاء ذكر اسمه صريحًا في كتاب الله في ثمانية مواضع ؛ منها أربعة في سورة (البقرة) ، ومن الأربعة موضعين ذُكِرَ فيهما في موضع شرف بمشاركته أبيه إبراهيم في بناء البيت الحرام ، في المكان الذي تركه فيه أبوه من قبل مع أمه الصابرة المحتسبة هاجر ، عليها السلام ، وقد أجرى الله الماء من تحت قدم إسماعيل كرامة وشرفًا ، فكان هذا بركة ورحمة ، وكان مصدر عمران المكان ، وظلت بركة الماء والمكان إلى يومنا هذا ، وستظل إلى أن يشاء الله .
في أثناء إقامة البيت توجه إسماعيل مع أبيه إبراهيم ، عليهما السلام ، وتضرعا بالدعاء لله رب العالمين : ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128)رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [ البقرة : 128 ، 129] .
واستجاب الله دعوتهما ، وكانت الأمة المسلمة التي ورثت ميراث إبراهيم وإسماعيل ، وكان النبي الخاتم الذي بعثه الله من أمة العرب يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وكان البيت الذي رفع إبراهيم وإسماعيل قواعده هو قبلتهم ومثابتهم ؛ وهكذا ختم الله رسالته في هذه الدنيا بهذا النبي الذي جاء من نَسْل إسماعيل ، وبعث حول البيت الذي بناه إسماعيل مع أبيه ، وحول الحجر الذي دفن فيه ، وعند الماء الذي نبع بقدرة الله من تحت قدم إسماعيل ، ألا وهو محمد ، صلوات ربي وسلامه عليه ؛ فهو سيد الأنبياء ، وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة ، وإن لم يكن لإسماعيل منقبة إلا هذه ، فأنعم بها .
وجاء بعد ذلك ذكر إسماعيل ، عليه السلام ، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ، وهداهم ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسير على نهجهم .
إلا أنه قد جاء ذكره في سورة (مريم) في الآيات التي صدرنا بها مقالنا هذا ذكرًا مستقلاً تشريفًا له وتكريمًا ، ووصفه القرآن الكريم بأوصاف كريمة ، وأول هذه الأوصاف ؛ صدق الوعد : ( إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ) [ مريم : 54] ، وصدق الوعد صفة مشتركة بين جميع الأنبياء ، لكن لماذا خص بها إسماعيل ، عليه السلام ؟
ذلك أنه صدق من نفسه صدقًا مع الله لم يسبقه فيه أحد ، ولم يلحقه ، وذلك أنه وعد أباه إبراهيم ، عليه السلام ، بتقديم نفسه للذبح تنفيذًا لأمر الله ، وصدق فيما وعد صدقًا أثنى الله عليه فيه ، وسطرَّه في كتابه الكريم يُتلى مادامت السماوات والأرض ، وذلك في قوله تعالى : ( يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) [ الصافات : 102] ، وإذا علمنا أن إسماعيل في ذلك الوقت صغير السن ، فقد بلغ معه السعي ، ثم يصدر منه ذلك القول وذلك الوعد ، وبهذا الأسلوب ، إنما يدل ذلك على صفة كريمة أخرى وصفه الله بها ؛ ألا وهي الحلم ، والصلاح ؛ لأن إبراهيم ، عليه السلام ، قال : ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) [ الصافات : 100] ، فجاءت البشرى في الآية التي بعدها مباشرة : ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ) [ الصافات : 101] ، فكان الوصفان لازمين لإسماعيل ، عليه السلام ، الصلاح والحلم منذ نعومة أظفاره ، ثم جاء صدق الوعد في الموقف المتميز ، ونفذ إسماعيل ما وَعَد به أباه ، وأسلم نفسه للذبح مستسلمًا لأمر ربه ، وأسلم إبراهيم كذلك واستسلم ، وجاء القرآن الكريم يصف هذا المشهد الرائع في غاية من البلاغة والإيجاز ، قال تعالى :


