موضوع العدد
هل كان الشوكاني زيديًّا ؟!
دراسة في المشرب العلمي للشوكاني
بقلم الشيخ / محمد عبد الحكيم القاضي باحث إسلامي
ليس من اليسير أن يُنسب رجلٌ إلى اتجاه عقائدي معين لمجرد بعض الملاحظات على عصره وواقعه ، وإلا لكان ذلك تجنيًا على الرجل وافتئاتًا على مبادئه ، فإذا تعلق الأمر بعالم من العلماء الذين وجهوا حركة الدعوة ، وأداروا دفة الحياة العلمية ردحًا من الزمان ، فإن نسبته إلى اتجاه معين بدون التعمق في تراثه العلمي وميراثه الفكري لا يُعتبر افتئاتًا على الرجل وحده ، ولكن افتئاتًا على التاريخ والفكر وموازين البحث العلمي .
ولعل كثيرًا من العلماء وقادة الفكر قد واجهوا شيئًا من التصنيف الفكري الخاطئ - إن صح التعبير – سواء من خصومهم السياسيين أو دسائس الوشاة ، أو نتيجة لسوء فهم قارئيهم بعد وفاتهم ؛ فقد اتهم الشافعي بالرفض ، وكان هذا في زمانه ، واتهم أبو حنيفة بالإرجاء ، وصُنِّف العلامة السني أبو الحسن الأشعري في عداد الجهمية الأشاعرة ، ونسب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى مذهب التشبيه ، وبدون تمحيص ذهب أقوام يسمون أصحابه وأتباعه بالحشوية ، ولم يكن لشيء مما سبق سند من الحق أو العلم ، إلا أثارات من أقوال مبتورة ، أو شواهد من وقائع ناقصة ، ولعله يكون لنا عودة إلى بعض ذلك إن شاء الله .
وممن حاولت أقلام الباحثين تصنيفهم فزجت بهم أحيانًا في اتجاه غير الذي تسنده الأدلة والبراهين : الإمام اليمني العلامة الفقيه المفسر الأصولي أبو علي محمد بن علي الشوكاني ، صاحب ( فتح القدير ) في التفسير ، و ( إرشاد الفحول ) في الأصول ، و ( نيل الأوطار ) ، و ( السيل الجرار ) في الفقه ، وغيرها من الكتب التي تبين عن فَذَاذَة علمية ، وقيمة فكرية لا تكرر كثيرًا ، فقد نسبه بعض الباحثين إلى فرقة الزيدية من الشيعة (1) ، وهي الفرقة التي حُكم باسمها اليمن قرونًا متطاولة من الزمان ، ونسبه بعضهم إلى فرقة ( المعتزلة ) ، وهي الفرقة التي لها علاقتها الوثيقة بالزيدية ، ولما كان بعض الباحثين – خصوصًا من أشرت إليه – ما يزال مُمارسًا للعلم ، وما يزال يؤخذ عنه نتائجه ، رأيت أن أتوقف مع إطلالة مركزة موجزة عن مشرب منهجه ، وتصحيح نسبته ، إنصافًا للتاريخ الذي هو شاهد على ما تكتب الأقلام .
وإذا كانت البيئة الزيدية التي نشأ فيه الشوكاني ، والجو العلمي المحيط به يُبْدي شيئًا من العُذر لمن يظن بداية أن الرجل زيدي ، فإن هذا العذر يرفع – بل يذوب – حتى ينظر في مصنفات الشيخ نظرة متأنية ، لقد جعلت هذه النظرة العجلى أستاذًا مختصصًا في التفسير يضع ( فتح القدير ) في مكتبته تحت لافتة ( تفاسير الزيدية ) ، وكتاب ( السيل الجرار ) تحت لافتة ( فقه الزيدية ) ، بينما يصرح د . أحمد صبحي أنه زيدي المذهب – قبل وبعد اجتهاده وحتى وفاته .
ويمنتهى السذاجة يقرر أحد الناشرين في مقدمة كتاب ( الدراري المضية ) للشوكاني أنه زيدي المذهب والعقيدة .
أقول : هذه البيئة الزيدية التي حفَّت الرجل لم تعد عذرًا لمن يطلع على تراثه العلمي ، وإنما هي عذر للجاهل بهذا التراث ؛ فالعقيدة السلفية والمشرب السلفي في الاجتهاد ، والطريقة السلفية في تلقي العلم ، والمنحى السلفي في فروع الفقه ، هذه جميعًا واضحة كلَّ الوضوح في هذا الميزان العلمي الضخم ، وهناك بعض الأمثلة منها :
1- نقول في كتاب ( فتح القدير ) – وهو تفسيره للقرآن – : تدل على أنه لم يهتم إلا بتفسيرات السلف في كل المواضع ، ونادرًا ما كان يعزو للعترة على الرغم من تقديره لهم ، وخذ مثالاً واحدًا وهو قوله في الآية : ( ثم استوى على العرش ) [ الأعراف : 54] .
( قد اختلف العلماء في معنى هذا على أربعة عشر قولاً ، وأحقها وأولاها بالصواب مذهب السلف الصالح : أنه استوى سبحانه – بلا كيف – على الوجه الذي يليق به ، مع تنزهه عما لا يجوز عليه ) (2) .
2- ما يدعو إليه من طريقته في التعلم ، هي طريقة سلفية بحتة ، لا يشير فيها أدنى إشارة إلى مذاهب الزيدية وكتبهم ؛ ففي كتاب ( أدب الطالب ) – الذي يُعَدُّ منهاجًا علميًّا لطلبة العلم – يدعو المبتدئ إلى قراءة ( جامع الأصول ) ، و ( كنز العمال ) ، و ( منتقى الأخبار ) ، و(بلوغ المرام ) … إلخ .
وهي كتب سلفية سنية ، كما يدعو إلى سماع الكتب الستة في الحديث ، وأما الفقه فما أنفع الإطلاع على المؤلفات البسيطة في حكاية مذاهب السلف وأهل المذاهب ؛ كمؤلفات ابن المنذر ، وابن قدامة ، وابن حزم ، وابن تيمية .
ولا سيما مؤلفات أهل الإنصاف الذين لا يتعصبون لمذهب من المذاهب ، ولا يقصدون إلا تقرير الحق وتبيين الصواب .
3- مخالفة الزيدية في أصولها وفروعها ؛ فلا يُقر من ذلك إلا النزر اليسير الذي يدل عليه الدليل ، فهو – على كثرة ما صنف في مسائل الاعتقاد – لم نعثر له على رسالة واحدة تشبه كلام الزيدية


