نتائج فتح مكة
د . الوصيف علي حزة
رئيس فرع الجمالية ومدير إدارة الشباب بالمركز العام
لم يكن فتح مكة كغيرها من الغزوات قتال وسفك دماء كبدر وأحد ، ولكنها كانت عزوة مسالمة ، ووفاء ، ومحافظة على أواصر القربى ، وصلة الأرحام ، في مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم لجمهرة قريش : ( ما تظنون أني فاعل بكم ؟ ) ، قالوا : خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .
وإنما كان غرض الرسول – صلى الله عليه وسلم – كسر شوكة العدو بإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وإظهارهم بمظهر الضعف ، واستسلامهم أمام جيش الإسلام الزاحف ، وكتائب الإيمان المظفرة .
وقد اصطلح علماء الإسلام على تسمية هذا الفتح بالفتح الأعظم تمييزًا له عن صلح الحديبية الذي سماه الله فتحًا ، قال البخاري من حديث البراء بن عازب : ( تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحًا ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ) .
وعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قال : فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد عليَّ قال : فقلت في نفسي : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألححت ( كررت ) على رسول الله – صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك !
قال : فركبت راحلتي فحركت بعيري فتقدمت مخافة أن يكون نزل فيَّ شيء قال : فإذا أنا بمناد : يا عمر قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل فيَّ شيء قال : فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( نزل عليَّ البارحة سورة هي أحب إلى من الدنيا وما فيها ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) [ الفتح : 1، 2] رواه البخاري وغيره .
قال الحافظ ابن كثير ( ج4 182) (تفسير) : ( أنزل الله عز وجل هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة ) ولذلك سمي فتح مكة الفتح الأعظم ، ويمكن تسميته فتح الفتوح لاعتبارات كثيرة ، ونتائج باهرة ترتبت على هذا الفتح الميمون .
1- إرساء قواعد العدل والعفو وأحكام مكة وقد خطب الرسول – صلى الله عليه وسلم – خطبة الفتح أرسى فيها هذه الدعائم التي تحتاجها البشرية اللاهثة وراء حضارة زائفة .
يقول ابن إسحاق : حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقف على باب الكعبة فقال : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدعى فهو موضوع تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها .
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب ) ، ثم تلا هذه الآية : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) [ الحجرات : 13] .
( يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم قال – صلى الله عليه وسلم : ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .
ثم جلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ، ومفتاح الكعبة في يده – صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ( أين عثمان بن طلحة ) فُدعي له فقال – صلى الله عليه وسلم – : ( هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر ووفاء ) .
وقد رواه البخاري بأخصر من هذا .
وأقول أين هذه المبادئ السامية من مبادئ الحضارة المعاصرة التي تستبيح البيضة ، وتستحل الحرمة ، وما فعله الصرب في البوسنة والهرسك ليس عنا ببعيد مما يشيب له الولدان وتنفطر له القلوب والأبدان .
فإلى الله المشتكى .
2- فتح مكة كان مفتاحًا للفتوحات الإسلامية من بعده فقد كانت قريش بما لها من مكانة دينية وقوة مادية تمثل لحمة الشرك وسداه ، فلما انفرط عقدها بفتح مكة تناثرت خرزات الشرك المستعصي في أرجاء الجزيرة العربية ، فانهزمت هوازان في حنين ، وانهزمت بعدها ثقيف في الطائف ، وتساقطت قلاع الوثنية الواحدة تلو الأخرى بعد هذا الفتح العظيم .
3- تطلع الرسول لغزو الروم بعد تطهير الجزيرة ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغه أن هرقل جمع له ، وسير جيشًا عدده أربعون ألفًا ، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا بلغه أن قومًا يجمعون له باغتهم قبل أن يفاجئوه كما فعل مع هوازن بحنين .
وقد كان في هذه الغزوة تدريب للصحابة الكرام على الجهاد في سبيل الله جل وعلا ، وأنه ليس قاصرًا على الجزيرة فحسب ، وإنما هو شأن إسلامي عالمي تتحمله الأمة المسلمة على عاتقها ؛ لتخرج الناس من عبادة العبا


