من سير السلف الصالح
كتبه / وليد فكري فارس
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وتابعه بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد :
فيقول الله تعالى في كتابه متحدثًا عن منهج تربوي وتعليمي فريد لنبيه ومن تبعه من المؤمنين : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ) [ يوسف : 3] .
يقول سبحانه وتعالى مرشدًا نبيه صلى الله عليه وسلم لاتباع نفس المنهج التربوي مع المؤمنين : ( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [ الأعراف : 176] .
وشملت هذه القصص في القرآن الكريم قصص الأنبياء والرسل وكذا قصص الصالحين كامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ومؤمن آل فرعون وغيرهم كثير – رضي الله عنهم – وكذا كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من حديثه كأحاديثه حول الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار وعن القاتل الذي قتل مائة نفس وتاب وغيره كثير .
وقصص القرآن والسنة ليست تاريخًا جافًّا يقف كثيرًا عند الزمن والمكان أو الأسماء أو حتى التتابع الزمني التاريخي المعروف ، فالهدف دائمًا التربية ، وما دامت التربية والتفكر هما الهدف ، فعرض القصص دائمًا ( الموقف ) موقف الرجال المؤمنين خارج الزمان والمكان ، لأن موقف الإيمان لم يكن أبدًا وليد البيئة من زمان ومكان وظروف محيطة ، وإنما الإيمان دائمًا يصنع رجالاً ونساءً عظماء خارج هذا الإطار الضيق .
كذلك لم يكن القصص القرآني والنبوي دراما مصطنعة – حاشا لله – بعيدة عن أرض الواقع ، وإنما هي تاريخ واقعي لأناس آمنوا وعاشوا قبلنا أو بيننا وعلى هذه السنة المباركة نسرد تاريخ القاضي ببكار من خلال وقفات حول الرجل مؤمنًا وقاضيًا ومظلومًا .
· الاسم : هو بكار بن قتيبة بن أسد بن عبد الله بن بشر بن أبي بكرة بن الحارث بن مخلدة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بصري ، ويعد في الطبقة الرابعة في رواية الحديث ، وفقيه يميل إلى مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ، ولي قضاء مصر بأمر الخليفة المتوكل العباس عام 246 هـ ، ثم سجنه أحمد بن طولون بعد استيلائه على مصر ، وفصلها عن الدولة العباسية حتى مات بكار عام 270 هـ ، ودفن بالحومه ( بقرافة الإمام الليث ) .
· التواضع : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ) [ الفرقان : 63] .
روى القضاعي عن السبب الذي اختار لأجله الخليفة المتوكل بكارًا ليوليه قضاء مصر : إن الخليفة المتوكل استشار قومًا فيمن يكون قاضيًا على مصر فأجمعوا على أن يولوا بكار بن قتيبة ، وكان قد بلغ المتوكل ما هو عليه من الزهد والورع والعفة والصلاح ، فأرسل إليه نجابًا ، وكان مقيمًا بأرض البصرة ، فلما وصل رسول الخليفة البصرة سأل عن مكانه فأرشدوه إليه ، فلما جاء إلى منزله وسأل عنه قيل له : إنه مضى إلى الفرن ، فجلس قليلاً ، وإذ بكار قد أقبل وعلى رأسه طبق الخبز ، فلما رآه النجاب ملتحفًا برداء قصير استحقره ، فلما دنا منه سلم عليه وقال له : أنا رسول الخليفة جئتك بتولية القضاء على مصر ، وهذا كتاب الخليفة ، فرد عليه بكار قائلاً : يا أخي لا أقدر على الوقوف ، فسأله الرسول عن السبب ، فرد عليه قائلاً : لأن الرداء الذي عليَّ لوالدتي وقد استأذنتها أن امضي به إلى الفرن ولم أستأذنها في الوقوف معك ، ثم تركه ودخل المنزل وعاد ودفع إليه رغيفين وقال له : أمضي في حفظ الله .
· التقوى : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ) [ البقرة : 281] .
ويروى المؤرخون أن القاضي بكارًا كان إذا فرغ من الحكم خلا بنفسه وعرض عليه جميع ما حكم به ، ويبكي ويقول : يا بكار قدم إليك رجلان في كذا وكذا وحكمت بكذا وكذا ، فما جوابك غدًا إذا وقفت بين يدي الله تعالى .
· الثبات على الحق : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) [ الأحزاب : 23] .
عين الخليفة العباس أحمد بن طولون واليًا على مصر ، ثم لما تولى الموفق أخو الخليفة المعتمد العباس ولاية العهد وأرسل للأقاليم يطلب الأموال بأمر الخليفة بعثت إليه كل الأقاليم باستثناء ابن طولون الذي عصى أمر الموفق ، وخرج في جيش إلى دمشق وملك أكثر الشام ، وأحضر قضاة الأمصار ، وأمرهم بخلع الموفق وأن يسجلوا أنه خارجي ، وبدأت أول حركة انفصال في جسد الدولة العباسية وجرت انقسامات متتابعة كثيرة فتتت الدولة الإسلامية ، وجرتها إلى ويلات كثيرة ، في هذا ( الموقف ) رفض بكار ما أمر به ابن طولون من خلع الموفق ، فتحايل ابن طولون حتى سجن بكارًا ظلمًا .
وكان بكار في سجنه يستقبل طلبة الحديث الذين يقرءون عليه في سجنه بإذن ابن طولون ، ويروي المؤرخ ابن الزيات ما كان يفعله بكار في سجنه فيقول : وكان بكار يغتسل في وقت الجمعة ويتوضأ ويأتي إلى باب السجن فيقول له
