من روائع الماضي
حول ذكرى الهجرة
فضيلة الشيخ / محمد خليل هراس ( رحمه الله )
كلما أهل هلال المحرم من كل عام وبزغت في الكون غرته الميمونة عاودت نفوس المسلمين تلك الذكرى الخالدة على الزمن ، ذكرى هجرة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه هو وأصحابه من مكة إلى المدينة ، ومثلت في خواطرهم تلك الصورة الحية والمشرقة التي حفظها التاريخ لهذا الحادث العظيم ، وما احتوته تلك الصورة من ألوان البطولة الرائعة والشجاعة الحقة والتضحية الباهرة التي تجلت في أعمال أولئك النفر من المهاجرين حين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله .
وليس عجيبًا أن يكون لحادث الهجرة تلك الأهمية الخاصة التي امتاز بها على غيره من أحداث الإسلام الكبرى حتى اختير من بينها ليكون مبدأ للتاريخ الإسلامي ، فإن ما تضمنه هذا الحادث من العبر والعظات ، وما تجلى فيه من معاني الرجولة والثبات وكريم التضحيات وما اكتنفه من الظروف والملابسات ، وما ترتب عليه من جلائل الآثار وعظيم الأخطار ، كل ذلك جدير أن يجعله في الطليعة بين الأحداث العالمية الكبرى التي غيرت وجه التاريخ ، وحولت مجرى الحياة البشرية ، ودرسًا خالدًا ينتفع به المسلم وغير المسلم ، وعبرة ماثلة في جميع الأجيال والعصور يتأسى بها كل من يتصدون للدعوة إلى الإصلاح حتى يصلوا بأممهم إلى ما يبغون لها من خير وفلاح .
إننا لا نستطيع أن نقدر تلك الهجرة قدرها إلا إذا صورنا لأنفسنا ما كانت تعانيه دعوة الحق في مكة من بطش الباطل ومكره ، فقد ضيق عليها الخناق ، وحال بينها وبين أن تبلغ القلوب والأسماع ، فكانت هي السبيل لخلاص الحق من أسر الباطل وخروجه إلى ذلك المتنفس الذي استطاع أن ينساب منه إلى أنحاء الدنيا الكافرة الحائرة ، فينقذها من ضلالها ، ويرشدها من حيرتها ، ويرسم لها طريق السعادة والنجاة .
كانت الهجرة مرحلة حاسمة من مراحل الدعوة الإسلامية ، أو بالأحرى كانت فاصلاً بين عهدين متمايزين غاية التمايز ؛ عهد كان فيه المسلمون بمكة قليلاً مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس ، كانوا يُؤذون فيصبرون ، ويُظلمون فيغفرون ، وكان بعضهم إذا اشتد به الأذى ولم يطق صبرًا على ظلم قومه له خرج إلى الحبشة مهاجرًا ، ولم يكن المسلمون في هذه الفترة من القوة والكثرة بحيث يستطيعون أن يقابلوا العدوان بمثله ، وكان منهم من يود لو أذن له في القتال ، ولكن القرآن ينزل آمرًا لهم بالعفو والصفح ، حتى يأتي الله بأمره ، فلما كانت الهجرة انبثق فجر عهد جديد ، ووجد المهاجرون في مهاجرهم الجديد مراغمًا كثيرًا وسعة ؛ إخوانًا من الأنصار ذوي عدة ومنعة ، فقويت بذلك شوكة الإسلام ، وأصبح مستعدًا لمنازلة الشرك ومجالدته بالسيف ، فما أن التقى به في غزوة بدر الكبرى حتى ضربه تلك الضربة الهائلة التي أذلته وأطاحت بكثير من رءوسه ، ثم كانت غزوات أخرى انتهت بذلك الفتح المبين والنصر المؤزر ، ودخل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مكة البلد الحرام يعلن نهاية الشرك ويقرأ : ( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) [ الإسراء : 81] ، ثم بدأت وفود القبائل بعد ذلك تفد من أنحاء الجزيرة تعلن إسلامها وانضواءها تحت لواء الدعوة الجديدة ، وكانت الهجرة هي الباب الذي دخل منه المسلمون إلى حياة العز والكرامة والحرية والقوة .
إن الناظر المتأمل في حادث الهجرة العظيم ليجد فيه من العبر ومن كريم المعاني ما يجب أن يكون أسوة حسنة للمسلمين ، ودرسًا ماثلاً في أذهانهم يتعلمون منه كيف يكون الثبات على دعوة الحق مهما اشتدت الفتنة وعظمت المحنة ، فلقد أُوذي المسلمون بمكة وزلزلوا زلزالاً شديدًا ، وأجلبت عليهم قريش بخيلها ورجلها ، وسلكت كل سبيل لفتنتهم وردهم عن دينهم ، فلم تر منهم إلا الثبات الذي لا يعرف التردد والعزيمة التي لا تقبل النكوص ، حتى مات بعضهم تحت سياط العذاب ، فما جزعوا لذلك ، ولا حملهم على الرجوع عن معتقدهم ، ولما أُمروا بالهجرة وفيها ما فيها من فراق الأهل والولد والمال والعشيرة والديار الحبيبة ، وكلها أمور تضن بها النفس وتحرص عليها حرصها على الحياة لم يقعدهم ذلك عن الهجرة ولا صرفهم عن تنفيذ ما أُمروا به ، بل آثروا حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على كل ما هناك من رغبات النفوس وعلائقها ، حتى لقد كان الواحد منهم يتعرض له ابنه أو أبوه أو زوجته يريدون تثبيطه عن الهجرة فلا يلتفت إليهم ولا يأبه لتوسلاتهم .
ولا ننسى – ونحن نتكلم عن الهجرة – ذلك الموقف الرائع الذي وقفه الأنصار من إخوانهم المهاجرين ، فقد آووهم وواسوهم وأكرموا وفادتهم ، وآثروهم على أنفسهم مع ما بهم من خصاصة ، حتى أزالوا من نفوسهم ألم الاغتراب ، وأشعروهم أنهم في ديارهم وبين أهليهم .
فهل آن للمسلمين أن يحسنوا الاقتداء بأسلافه


