مع القرآن

مع القرآن
علوم القرآن أصولاً ومنهجا
حكم حمل المطلق .. على المقيّد
بقلم أ .د محمد بكر إسماعيل أستاذ التفسير وعلوم القرآن جامعة الأزهر

ذكرنا في المقال السابق أن المطلق هو : ما دل على الحقيقة بلا قيد ، فإن وصف المطلق بشيء ، أو أضيف إليه شيء ، أو حدد بزمان ، أو مكان ، فهو : مقيد ، فإذا قلت مثلاُ : (أكرم رجلاً) ، فهذا مطلق لخلوه عن التقييد ، فإن قلت : أكرم رجلاً عراقيًّا ، أو رجلاً صالحًا ، فهذا مقيد بكون الرجل عراقيًّا ، أو بكونه صالحًا .
والمطلق – كما عرفنا في المقال السابق – يجري على إطلاقه ، فلا يجوز تقييده بأي قيد ، إلا إذا قام الدليل على التقييد .
ونريد أن نتحدث في هذا المقال عن حكم حمل المطلق على المقيد ، فنقول : للمطلق مع المقيد أربع أحوال :
الأولى : أن يكون حكم المطلق والمقيد وسببه واحدًا : ففي هذه الحال يحمل المطلق على المقيد بلا خلاف .
مثاله قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) [المائدة : 3] ، وقوله تعالى : ( قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا )[الأنعام :145] .
فلفظ ( َالدَّمُ ) ورد في الآية الأولى مطلقًا ، وورد في الآية الثانية مقيدًا بكونه مسفوحًا ، والحكم في الآيتين واحد ، هو : حرمة تناول الدم ، وسبب الحكم واحد هو الضرر الناشئ عن تناول الدم ، فيحمل المطلق على المقيد ، ويكون المراد من الدم المحرم تناوله ، هو : الدم المسفوح ، دون غيره : كالكبد والطحال ، والدم الباقي في اللحم والعروق ، فكل ذلك حلال غير محرم .
الثانية : أن يختلف المطلق والمقيد في الحكم والسبب ، مثل قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا )[المائدة : 38] .
وقاله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ )[المائدة : 6] .
فكلمة (الأيدي) في الآية الأولى وردت مطلقة ، وفي الثانية مقيدة بقوله تعالى : ( إِلَى الْمَرَافِقِ ) ، والحكم مختلف ، ففي الآية الأولى : قطع يد السارق والسارقة ، وفي الثانية : إرادة الصلاة .
ففي هذه الحالة لا يحمل المطلق على المقيد ، بل يعمل بالمطلق في موضعه ، وبالمقيد في موضعه ، إذ لا صلة ولاارتباط أصلاً بين موضعي النصين .
وكان مقتضى الإطلاق في آية السرقة أن تقطع يد السارق كلها عملاً بالإطلاق ، ولكن السنة قيدت هذا الإطلاق ، إذ وردت بأن النبي صلي الله عليه وسلم قطع يد السارق من الرسغ .
والسنة المشهورة تقيد مطلق الكتاب ، كما يقول الحنفية وغيرهم من الفقهاء .
الثالثة : أن يختلف الحكم ويتحد السبب ، وفي هذه الحالة يبقى المطلق على إطلاقه ، ويعمل به في موضعه الذي ورد فيه .
مثاله قوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) وقال في الآية نفسها 🙁 فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) [المائدة : 6] .
فالحكم في النص الأول : وجوب غسل الأيدي التي وردت مقيدة ، والحكم في النص الثاني : مسح الأيدي التي وردت مطلقة ، والسبب للحكمين متحد ، وهو : إرادة الصلاة .
ففي هذه الحالة لا يحمل المطلق على المقيد ؛ بل يعمل كل منهما في موضعه بموجب إطلاقه أو تقييده .
لكن قد يقال : إن التيمم والوضوء متحدان في الحكم ، فالتيمم بدل من الوضوء فيعطى حكمه فيحمل المطلق حينئذ على المقيد ، فيجب على المتيمم أن يمسح يديه إلى مرفقيه كما يفعل المتوضئ .
الرابعة : أن يكون حكم المطلق والمقيد واحدًا ، ولكن سبب الحكم فيهما مختلف ، ففي هذه الحالة يعمل بالمطلق على إطلاقه فيما ورد فيه ، و بالمقيد على تقييده فيما ورد فيه ، فلا يحمل المطلق على المقيد ، وهذا عند الحنفية ومن نحا نحوهم .
وعند غيرهم كالشافعية : يحمل المطلق على المقيد ، ومثاله قوله تعالى في كفارة الظهار : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) [المجادلة : 3] ، وقوله في كفارة القتل الخطأ : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ )[النساء :92] فلفظ ( رَقَبَةٍ ) جاء في النص الأول مطلقًا ، وفي الثاني مقيدًا .
وحجة أصحاب القول الثاني : هي أن الحكم ما دام متحدًا مع ورود اللفظ مطلقًا في نص ، ومقيدًا في نص آخر ، فينبغي حمل المطلق على المقيد لتساويهما في الحكم ، دفعًا للتعارض ، وتحقيقًا للانسجام بين النصوص .
وحجة الحنفية ومن نحا نحوهم : أن اختلاف السبب قد يكون هو الداعي إلى الإطلاق و التقيد ، فيكون الإطلاق مقصودًا في موضعه والتقييد مقصودًا في موضعه ، ففي كفارة القتل الخطأ قيدت الرقبة بكونها مؤمن