مع القرآن
علوم القرآن أصولاً ومنهجا
الحكمة من وجود المتشابه فى القرآن بشكل عام
بقلم أ.د/ محمد بكر إسماعيل – أستاذ التفسير وعلوم القرآن جامعة الأزهر
تكلمنا فى المقال السابق عن المحكم والمتشابه فى القرآن الكريم ، وقلنا : إن القرآن كله محكم باعتبار ، وكله متشابه باعتبار ، وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار .
فهو محكم كله ، باعتبار أنه متقن فى نظمه وأسلوبه وأحكامه ، مانع من دخول غيره فيه ، ومن طروء الخلل فى ألفاظه ، والتناقض فى معانيه .
وكله متشابه ، باعتبار أنه متماثل فى فصاحته وبلاغته وحلاوته وطلاوته .
وبعضه محكم وبعضه متشابه ، باعتبار أن بعضه أحكام نصية لا تحتمل إلا وجهاً واحداً ، وبعضه أحكام تحتمل أكثر من وجه إلى آخر ما ذكرنا .
ونتحدث فى هذا المقال عن الحكمة من وجود المتشابه فى القرآن بوجه عام فنقول :
1. القرآن الكريم كتاب هداية ومنهج حياة ، أنزله الله وافياً بمطالب البشر جمعياً ، على اختلاف بيئاتهم وأزمانهم ، ومطالب الحياة كثيرة ، وحاجات الإنسان لا تحصى ولا تنحصر ، فلا يكفيها تشريع تحتويه ملايين الصفحات .
فكان من حكمة الحكيم الخبير أن ينزل من القرآن نصوصاً تحتمل وجوهاً من البيان ، كل وجه منها يمس جانباً من جوانب الحياة ، ويقضى مطلباً من مطالب الإنسان ، ويفتح له باباً من أبواب التيسير ، فيدفع عنه حرجاً أو يجعل له مخرجاً مما يعانى منه ، أو يحبسه عن تحقيق أهدافه المشروعة ، حتى يبدو وكأن النص الواحد جَمَعَ فى طياته نصوصاً كثيرة تأمر وتنهى ، وتوصى وترشد ، فأغنى ذلك عن كتاب عظيم لا تستقصى صفحاته ، ولا تنقضى كلماته وتشريعاته .
وقد أدى هذا التشابه إلى خلافٍ محمودِ العواقب بين العلماء الأفاضل ، وجد الناس فيه رحمة من الله وسعة ، لأنه خلاف لم ينشأ بسبب تناقض فى النصوص القرآنية أو اختلافاً بين أحكامها ، كلا ، كلا .. ” وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ” ( النساء : 82 ) .ولكنه خلاف مبني على قرائن شرعية وعقلية استنبطوها من الكتاب نفسه ، ومن السنة المطهرة ، تجعل كل إمام يرجح وجهاً على آخر .
والاجتهاد واجب على علماء الأمة بشروط مبسوطة فى كتب أصول الفقه ، لم يخرجوا – بحمد الله – عنها ، فكان لمن أصاب منهم أجران ، ولمن أخطأ أجر واحد ، وقد وجد الناس – كما قلت – فى هذا الخلاف تيسيراً وتوسعة أرادها لهم ربهم عز وجل . قال تعالى : ” يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ” ( البقرة : 185 ) . هذه حكمة سامية لوجود المتشابه فى القرآن الكريم وفى السنة المطهرة .
2. وفى وجود المتشابه : تدريب للعقول على التأمل والنظر ، وفى هذا التدريب لذة لا يعرفها إلا أولو الألباب ، فكلما أدرك العالم بعقله وجهاً من وجوه الترجيح – وفق ما لديه من القرائن – شعر بنشوة غامرة ، ورغبة ملحة فى مواصلة البحث والاستنباط . ولا شك أن البحث عن الحقائق من أوجب الواجبات ، وهو يؤدى حتماً – إن شاء الله تعالى – إلى الوصول إليها من غير تقليد ، فيكون إيمانه بها أتم وأكمل من إيمان المقلد قطعاً . قال تعالى : ” قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ” ( الزمر : 9 ) .
3. وفى وجود المتشابه : نوع من ابتلاء الله تعالى ، ليعلم العبد من نفسه هل هو مؤمن بما أخبره الشارع به ، من الأمور الغيبية التى لا مجال للعقل فيها ، أم هو لا يزال فى الطريق إلى هذا الإيمان السامى ، الذى جعله الله تعالى أول أوصاف المتقين فى سورة البقرة حيث قال : ” الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ” ( البقرة : 3 ) . وهذه الحكمة ظاهرة فى المتشابه الذى استأثر الله بعلمه ، وما ليس للعباد فيه علم كاف بوقته وقدره ونوعه وحقيقته . يقول الله عز وجل : ” هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ” ( آل عمران : 7،8 ) .
أ.د / محمد بكر إسماعيل
الأستاذ بجامعة الأزهر


