كلمة التحرير
تقديم رئيس التحرير صفوت الشوادفي
بقلم العلامة الشيخ / عبد الرحمن بن ناصر السعدي (رحمه الله).
معاشرة … المؤمنين
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله … وبعد :
فهذه كلمات صائبة صادقة بقلم العلامة الشيخ السعدي – رحمه الله – عجز قلمي عن الإتيان بمثلها ، فأقررت بالفضل لأهله ، وآثرت أن أقدمها للقراء الكرام ؛ لينتفع بها من شرح الله صدره ، ويعمل بها من أدركه توفيق الله ، ويستضيء بنورها كل باحث عن الهداية .
قال – رحمه الله – : اعلم أن الناس في معاشرة بعضهم لبعض درجات في الخير والشر ، لا تنضبط .
وأغلب المعاشرات قليلة الجدوى ، عديمة الفائدة ، بل كثير منها مُؤدٍّ إلى الخسران والأضرار الدينية والدنيوية .
ونذكر في هذا الموضع أعلى الأقسام وأنفعها ، وأبقاها ثمرة ، فإن أدركها المؤمن بتوفيق الله وجده واجتهاده ، فقد أدرك كل خير ، وإن لم تَقْوَ نفسه على بلوغها فليجاهدها ، ولو على بعضها ، وهي يسيرة على من يسرها الله عليه .
فأصل ذلك ، أن تعقد عزمًا جازمًا ، وعقيدة صادقة ، على محبة جميع المؤمنين ، والتقرب إلى الله في هذه المحبة ، وتجتهد على تحقيقها على وجه العموم ، وعلى وجه الخصوص ، وعلى قلع كل ما يُضادَها أو ينقضها ، فتعتقد أن تحقق القلب بمحبة المؤمنين عبادة من أجلّ العبادات ، وأفضل الطاعات ؛ فتتخذ جميع المؤمنين إخوانًا ، تحبُّ لهم ما تحب لنفسك من الخير ، وتكره لهم ما تكرهه لنفسك من الشر ، وتعقد قلبك في تحقيق هذا الأمر الجليل ، والانصاف به ، والاحتراز من ضِدَه ، من الغِلَ والحقد والحسد والبغض لأحد منهم .
ومتى رأيت من قلبك شيئًا من ذلك فبادر بقَلْمِه ، وسَلِ الله أن لا يجعل في قلبك غِلاً على أحد من المؤمنين ، خاصتهم وعامتهم ، وميَز من له في الإيمان مقام جليل ، كعلماء المسلمين وعبادهم بزيادة محبة بحسب مقاماتهم ، لتكون موافقًا لله في محبته ، وتعاهَدْه ذلك بالتحبب إلى المؤمنين ، بطلاقة الوجه ، وحُسن الخُلق ، والمعاملة الجميلة ، فإنها في نفسها عبادة ، وهي جالبة لتحقق القلوب بينك وبين المؤمنين بالمودة والرحمة ، ووطن نفسك على ما ينالك من الناس من أذى قولي ، أو أذى فعلي ، أو معاملة منهم بضد ما عاملتهم به من الإحسان ، فإن توطين النفس على ذلك يسهل عليك الأمر ، وتتلقى أذاهم بضده .
وليكن التقرب إلى الله عند ذلك على بالك ، فإن التقربَّ إلى الله هو الذي يهون عليك هذا الأمر الذي هو شديد على النفس .
واعلم أن هذا الوصف من أوصاف الكُمَّل من أولياء الله وأصفيائه ، فبادر للاتِّصاف به ، فمن أبغضك وعاداك وهجرك فعامله بضدِّ ذلك لتكسب الثواب ، وتكتسب هذا الخُلق الفاضل ، وتتعجل راحة قلبك ، وتخفف عن نفسك همَّ المُعاداة ، وربما انقلب العدو صديقًا ، والمبغض محبًّا ، كما هو الواقع .
واعفُ عما صدر منهم لله ، فإن من عفا عن عباد الله ، عفا الله عنه ، ومن سامحهم سامحه الله ، ومن تفضل عليهم تفضل الله عليه ، والجزاء من جنس العمل .
ولينصبغ قلبك كل وقت بالإنابة إلى الله ، ومحبة الخير لعباد الله ، فإن من كان كذلك فقد تأصَلت في قلبه أصول الخير التي تُؤتي أكلها وثمراتها كل حين بإذن ربها .
وبهذا يكون العبد أوَّابًا : ( فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ) [ الإسراء : 25] .
وإذا اجتمعت مع الناس ، فخالقهم على حسب درجاتهم : الصغير والكبير ، والشريف والوضيع ، والعالِم والجاهل ، كل أحد تكلم معه بالكلام الذي يُناسبه ، ويليق بحاله ، ويُدخل السرور عليه ، وبالكلام الذي له به ميدان ، معلمًا للجاهل ، متعلمًا ممن هو أعرف منك ، متشاورًا مع نظيرك فيما هو الأحسن والأصلح من الأمور الدينية والدنيوية ، آخذًا لخواطرهم ، موافقًا لهم على مطالبهم التي لا محذور فيها ، حريصًا على تأنيسهم وإدخال السرور بكل طريق ، مُضمنًا كلامك لكل أحد ما يناسبه من النصائح التي تنفع الدين والدنيا ، ومن الآداب الجميلة .
وحُثَّهم على قيام كل منهم بما هو بصدده من الحقوق التي لله والتي للخلق ، موضحًا لهم الطرق المسهلة لفعل الخير ، والأسباب الصارفة عن الشر .
واقنع بالقليل إذا عجزت عن الكثير .
واعلم أن قبولهم وانقيادهم مع الرفق والسهولة ، أبلغ بكثير من سُلوك طريق الشدة والعنف ، إلا حيث تُلجئ الضرورة إلى ذلك ، فللضرورة أحكام .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .


