عقائد الصوفية في ضوء الكتاب والسنة
مراتب الأولياء
بقلم أ : محمود المراكبي
سأل أحمد بن عياد أحد مشايخ الشاذلية في مقدمة كتابه (المفاخر العلية في المآثر الشاذلية) (ص16 ، 17) عن معنى القطب ؟ فقال له شيخه : الأقطاب كثيرة ، فإن كل مقدم قوم هو قطبهم ، وأما قطب الغوث الفرد الجامع فهو واحد ، وتفسير ذلك أن النقباء هم ثلاثمائة ، وهم الذي استخرجوا خبايا النفوس ، فهذه الثلاثمائة لهم إمام منهم يأخذون عنه ويقتدون به ، فهو قطبهم ، ثم النجباء أربعون ، وقيل : سبعون ، وأما الأبدال فهم سبعة رجال ، أهل كمال واستقامة واعتدل ، ومن خواص الأبدال : من سافر منهم من موضعه ، وترك جسدًا على صورته ، فذاك هو البدل لا غير ، والبدل على قلب إبراهيم عليه السلام ، وهؤلاء الأبدال لهم إمام مقدم عليهم ، يأخذون عنه ويقتدون به ، وهو قطبهم ؛ لأنه مقدمهم ، وقيل : الأبدال أربعون ، وسبعة هم الأخبار ، وكل منهم لهم إمام منهم هو قطبهم ، ثم الأوتاد ، وهم عبارة عن أربعة رجال ، منازلهم منازل الأربعة أركان من العالم شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالاً ، ولهم واحد منهم هو قطبهم ، وأما الإمامان فهما شخصان أحدهما عن يمين القطب ، والآخر عن شماله ، فالذي عن يمينه ينظر في الملكوت وهو أعلى من صاحبه ، والذي عن شماله ينظر إلى الملك ، وصاحب اليمين هو الذي خلف القطب ، والغوث : عبارة عن رجل عظيم وسيد كريم تحتاج إليه الناس عند الاضطرار في تبيين ما خفي من العلوم المهمة والأسرار ، ويُطلب منه الدعاء ؛ لأنه مستجاب الدعاء ، لو أقسم على الله لأبر قسمه ، مثل أويس القرني في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينفرد أحمد بن عياد بهذه المفاهيم عن درجات الأولياء وأسمائهم وأوصافهم ، بل انتشرت هذه المفاهيم في أوساط الصوفية وحضراتهم وطرقهم المختلفة .
أولاً : أحاديث الأبدال :
اخترع الصوفية مراتب لأوليائهم ومشايخهم أكثرها شهرة الأقطاب ، والأبدال ، وقد ألف الشعراني كتابًا سماه (الميزان الخضرية ) ، وللسيوطي رسالة سماها (الخبر الدال على وجود الأقطاب والأوتاد والنجباء والأبدال) ، أورد فيها مجموعة كبيرة من الأخبار والآثار الضعيفة ، حاول بها إثبات وجود الأبدال ، وبرغم تضارب هذه الأقوال واختلاف متونها اختلافًا كبيرًا ، إلا أنه من الغريب حقًّا أنها تخبر عن كل من الأبدال والنقباء والعمد ، دون أدنى ذكر للأقطاب ، ويبدو أن القطب درجة استحدثت فيما بعد ، وسنعرض هذه الروايات والحكم عليها ، حتى يُميز القارئ الكريم بين الطيب والخبيث مما اشتهر على ألسنة الصوفية من هذه الأحاديث ، ومن أراد تتبع رجال الإسناد فليرجع إلى كتابنا (عقائد الصوفية في ضوء الكتاب والسنة) ، ومما يلفت النظر أن معظم روايات الصوفية تتفق على أن للشام الحظ الأوفر من الأبدال ، عددهم في رواية ضعيفة : (الأبدال بالشام وهم أربعون رجلاً ) ، وتارة : (ستون) ، وفي رواية أخرى ضعيفة أيضًا : ( الأبدال أربعون رجلاً وأربعون امرأة ) ، وفي رواية : ( الأبدال بالشام ثلاثون رجلاً على منهاج إبراهيم ، كلما مات رجلاً أبدل الله مكانه آخر ، وعشرون منهم على منهاج عيسى ابن مريم ، وعشرون منهم قد أوتوا من مزامير آل داود ) .
واليافعي يرى تقسيمًا آخر ، حيث يقول : ( الأوتاد واحد باليمن ، وواحد بالشام ، وواحد بالمشرق ، وواحد بالمغرب ، والله سبحانه يُدير القطب في الآفاق الأربعة من أركان الدنيا كدوران الفلك في أفق السماء ) .
وهذا الشكل الذي يقدمه اليافعي أبسط مما اخترعه الكتاني ، فالدنيا على حد علمه يحدها شمالاً وجنوبًا اليمن ، وعلى القطب أن يدور أركان الدنيا ، إلا أن القاشاني ابتكر تصورًا أيسر ، فيقول : ( البدلاء سبعة رجال ؛ يسافر أحدهم عن موضع ويترك فيه جسدًا على صورته ، بحيث لا يعرف أحد أنه فُقد ، وذلك معنى البدل لا غير ، وهم على قلب إبراهيم ) . [(اصطلاحات الصوفية) للقاشاني (ص36)] .
وهناك أخبار أخرى تكسر احتكار الشام للأبدال ، وتفتح المجال أمام التوزيع الجغرافي والانتشار على باقي الدول والأمصار .
ولهذا ظهرت أسماء مساعدة للأبدال ؛ كالنقباء ، والنجباء ، والأوتاد ، وبذلك نجد الأخبار تقول : ( الأبدال من أهل الشام ، والأوتاد من أبناء الكوفة ) . وفي رواية : (النجباء بالكوفة ، والأبدال بالشام ، والنجباء من أهل مصر ، والأخبار من أهل العراق ) .
وفي رواية أخرى نرى توزيعًا جغرافيًّا آخر : ( دعامة أمتي عصب اليمن ، وأبدال الشام وهم أربعون ) .
ثم يجمع أحمد بن أبي الحواري بين هذه الروايات فيقول : سمعت أبا سليمان الداراني يقول : ( الأبدال بالشام ، والنجباء بمصر ، والعصب باليمن ، والأخيار بالعراق ) .
ثم تعقب شيخ الإسلام الشوكاني هذه الأحاديث في كتابه ( الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ) ، وكذلك الألباني في ( سلسلة الأحاديث الضعيفة


