قانون الأخلاق
بقلم فضيلة الشيخ / عبد العظيم بدوي
( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) [ الأعراف : 199] .
عن عبد الله بن الزبير قال : ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس . [ البخاري :4643] .
وقال جعفر الصادق : ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية . [ القرطبي :7/ 345] .
وقال القاضي أبو بكر بن العربي : قال علماؤنا : هذه الآية من ثلاث كلمات ، قد تضمنت أصول الشريعة المأمورات والمنهيات ، حتى لم يبق فيها حسنة إلا أوضحتها ، ولا سيئة إلا شرحتها ، ولا أكرومة إلا افتتحتها . [ أحكام القرآن) : 2 / 826] .
وهذا يدل على منزلة الأخلاق في الدين ومكانتها الرفيعة فيه .
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
لذلك اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بالأخلاق اهتمامًا ، وبالغ في توكيدها وبيان منزلتها ، فقال : (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) . [ البخاري في (الأدب المفرد) (273)].
وكان يقول : (إن مِن أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا) . [ الترمذي 2087] . (ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق) . [ أبو داود : 4778] .
( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا ) [ أبو داود 4777] . ( إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ) [التزمذي : 1172] .
وهذه الآية جامعة لحُسن الخُلق مع الناس وما ينبغي في معاملتهم ، فهي تأمر النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه أن يأخذ من الناس العفو ، وهو ما سمحت به نفوسهم وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق ، فلا يكلفهم ما لا يملكون ولا يسألهم ما لا يجدون ، بل يقبل منهم القليل ويتجاوز عن الكثير ، وأن يعاملهم باللطف واللين والعطف على الكبير والصغير ، حتى تنشرح له صدورهم ، وترتاح له نفوسهم ، تمتلأ بحبه قلوبهم .
هكذا كان صلى الله عليه وسلم ، فلقد كان يُنزل الناس منازلهم ، ويُقابل كل أحد بما يليق به ؛ فكان يرحم الصغير ويداعبه ، ويتواضع للكبير ويمازحه .
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس ، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا ، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : (من لا يَرحم لا يُرحم) . [ مُتفق عليه ] .
وعن أنس ، رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقًا ، وكان لي أخ يقال له : أبو عمير – وهو فطيم – فكان إذا جاءنا قال : (يا أبا عُمَير ما فعل النُّغير) ، تصغير النغر ، وهو طائر صغير كالعصفور ، كان الصبي يلعب به . [ أخرجه البخاري : 6203] .
وعن أنس قال : كانت الأمة من إماء المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت . [ البخاري : 6072] .
وعنه : أن رجلاً أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، احملني ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (فإنّا حاملوك على ولد ناقة ؟) . قال : وما أصنع بولد الناقة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (وهل تلدُ الإبل إلا النوق ؟) . [ أبو داود : 4997، والترمذي : 1991] .
وكان صلى الله عليه وسلم يغض طرفه عن تقصيرهم وزلاتهم ، ويعفو عن سيئاتهم ؛ ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يفتح مكة سأل الله أن يعمي عنهم خبره ، حتى يدخلها فاتحًا دون قتال ولا سفك دماء ، فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فسبق الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث من أحضر الكتاب ، ثم قال : ما هذا يا حاطب ؟ فاعتذر إليه حاطب ، فقبل عذره ، وقال لأصحابه : ( إنه قد صدقكم ) . فقال عمر : دعني أضرب عنقه ، فقال صلى الله عليه وسلم : (إنه قد شهد بدرًا ، وما يُدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) . [ البخاري : 4890] .
وعن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسًا في القسمة ؛ فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى عمران بن حصين مثل ذلك ، وأعطى ناسًا من أشراف العرب وآثرهم في القسمة ، فقال رجل : والله إن هذه قسمة ما عُدل فيها ، وما أريد بها وجه الله ، فقلت : والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته بما قال : فتغير وجهه ، حتى كان كالصِّرف ، ثم قال : (فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ؟!) . ثم قال : (يرحم الله موسى ، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) . [ البخاري : 4335] .
وبمثل هذه الأخلاق كسب النبي صلى الله عليه وسلم الناس واستمالهم إليه ، وحببهم فيه وفي دينه ، فآمنوا به وعزّروه ونصروه ، ولقد امتنّ الله عليه بذلك فقال : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْف


