الافتتاحية
غربة المسلم
بقلم الرئيس العام / محمد صفوت نور الدين
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه ، وبعد :
ففي الحديث : ( بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء ) .
تصوير التحول : هب أن رجلاً قدم إلى بلد لا يعرفونه ، فمر يحمل حقيبته قاصدًا بيتًا معينًا فيها قد وصف له موضعه ، فهو يسير وملبسه في طرقاتها متجهًا نحو مقصده ، كلما مر على قوم نظروا إليه ، فإذا غريب لا يعرفونه ، فكانت غرابته سمة واضحة في خطوه وملبسة وهيئته ، وفي كل شيء من أمره ، حتى إذا بلغ المنزل الذي أراد بدأ فتعرف على ساكنيه باسمه ونسبه ، فزالت الغربة عن اسمه ونسبه ، ثم حط رجله وجلس بينهم وأخذ يحدثهم ويسألونه ، حتى ألفوا صوته وعرفوا منطقه ، ثم مرت الأيام وهو يحيا بين هؤلاء وهم يقدمونه لأهل قريتهم ، فيشاركهم مجالسهم ويساهم معهم في أعمالهم ويدلي بدلوه في أقضياتهم ويساهم برأيه في مشكلاتهم ، فمال القوم رويدًا رويدًا إليه ، حتى صار المقدم عندهم في كل أمر فصاروا لا يقطعون رأيًا دونه ولا يعقدون عقدًا إلا بمشورته ولا يفصلون في قضية إلا عن قوله ، فصارت تربيتهم لأبنائهم وتعلمهم في مجالسهم برأيه وقوله ، وصارت علاقاتهم الأسرية بين الرجل وزوجه وبينه وأهله كذلك عن إرشاده ونصحه ، حتى أسواقهم ومتاجرهم وبيعهم وشراؤهم قد صار إلى قوله وفصله ، فصار قوله وأصبح رأيه ، بل أضحى هو نفسه في كل مكان معروفًا مألوفًا محبوبًا .
ثم نبتت في تلك المجتمع نابتة وظهرت بوادر من بعض أبنائه ، بدأت في أسواقهم فخالفوا في تجارتهم قوله وعصوا أمره ، وخرجوا على الناس برأي لم يلتزموا فيه هديه ، فسرت تلك الطريقة في أهل الأسواق ، حتى صار لا موضع له في الأسواق ، فإن دخلها كان غريبًا ، ثم سرى الأمر من الأسواق إلى المنتديات والبيوت والطرقات ، حتى صارت غربته في كل شيء ، فصار الناس ينظرون إلى قوله وإرشاده ورأيه نظرة الغرابة ، فلا يعملون به ولا يتابعون ولا ينفذون ، فصار على نفسه منطويًا لا يجد بينهم مؤيدًا ولا نصيرًا ولا يجد منهم مستنصحًا ولا مستشيرًا ، حتى عاد غريبًا لا يجد منهم له جليسًا ولا أنيسًا ، فحمل حقيبته وحزم أمتعته وعاد يحملها يخرج من هذه القرية غريبًا كما بدأ .
هكذا تحول الإسلام في بلاد الإسلام يوم ظهر قال لهم : قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ، فقالوا : ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) [ ص : 5] ، حتى دانوا له في ذلك فدخل معهم حتى حكم كل شيء ، فكان أمره عجبًا ، حكم أموالهم وأبناءهم ونساءهم ، وفصل في خصوماتهم ، فكان هو منهج البيت والمسجد ، ومنهج القلب في اعتقاده الذي روض البصر والسمع والرجل في خطوها واليد في حركتها والطعام الذي يأكلونه ، والملبس الذي يرتدونه ، حكم الحياة منهم وحكم الممات ، حكم الأفراح والأتراح ، وضبط منهم كل شيء على منهجه الذي ارتضاه لهم رب العالمين .
حتى نبتت نابتة شيطانية قالت : ( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ) [ هود : 87] ، فظنوا بجهلهم أن العمل بالإسلام لا يصلح في أمر الأموال ، فهجروا الإسلام في الأسواق ، ثم هجروه في الأفراح ، ثم هجروه في القضايا والفصل في المنازعات وحل الخصومات ، وهكذا رويدًا رويدًا ، حتى صار المتكلم به غريبًا ، والعامل به غريبًا ، والملتزم به غريبًا ، إن ذكروه فهو من أمر التاريخ القديم ، فهل سيرحل الإسلام عنهم ، إنه ليس كغريب طرأ عليهم ليرحل بعد عنهم ؛ لأنه الدين الذي ارتضاه رب الأرض والسماء ، رب كل شيء ومليكه ، ففي هجره شقاء الدنيا والآخرة ، وفي الإعراض عنه الضنك في الدنيا والعمى في الآخرة : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [ طه : 124] .
هذا تصوير للغربة بعد الألفة ، والوحشة بعد الخلطة ، فإذا أردنا أن نعرف أسباب غربة الإسلام بيننا والتي أفشاها بيننا الشيطان فصارت عونًا له على إبعادنا عن ديننا ، فهي في أبعاد ثلاثة :
أولاً : البعد الزماني : حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته ) .
وقال سبحانه : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا(58)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَ


