باب التفسير
شروط الانتفاع القرآن
بلم الدكتور/ عبد العظيم بدوي
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ @ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ @ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ @ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ @ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ ق : 36- 40 ] .
يقول تعالى لمشركي العرب : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا } ؛ أي كانوا أشد منكم قوة ، وأكثر أموالاً وأولادًا ، فلما كفروا لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من شيء لما جاء أمر ربك ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ @ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ @ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ @ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ @ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ @ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ @ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ @ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ @ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [ الفجر : 6- 14 ] لكل ظالم وكل طاغية ، وإن أمهلهم فلن يهملهم : (( إن اللَّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )) . متفق عليه .
{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] ، { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] ، { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ @ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ @ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ @ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [ القمر : 43- 46 ] .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } . قال العلماء : ذكر اللَّه سبحانه في هذه الآية شروط الانتفاع بالقرآن والتأثر به . وقالوا : تمام التأثير متوقف على وجود : المؤثر ، والمحل القابل ، وشرط لحصول الأثر ، وانتفاء المانع .
فمثلاً : هذه الكهرباء السارية في هذه الأسلاك إذا أردنا الحصول على أثرها وهو الضوء ، فلا بد من توفر هذه الأمور الأربعة :
الأول : لا بد من وجود المؤثر ؛ وهو التيار الكهربائي ، فإذا كان التيار غير موجود لا يمكن أن يحصل الأثر .
الثاني : لا بد من وجود المحل القابل للأثر ؛ وهو المصباح السليم الصالح .
الثالث : لا بد من وجود شرط حصول الأثر ؛ وهو أن تضغط على الزر المخصص لهذا الأمر .
الرابع : لا بد من انتفاء الموانع التي يمنع وجودها من الحصول على الأثر ؛ كوجود خلل في الأسلاك ونحو هذا .
فإذا وجد المؤثر وهو التيار ، والمحل القابل وهو المصباح الصالح ، ووجد الشرط وهو الضغط على الزر ، وانتفت الموانع من قطع الأسلاك وغيرها ، حصل الأثر المطلوب وهو الضوء .
كذلك القرآن الكريم يؤثر في القلوب ، ويزيدها إيمانـًا ، ويذهب بقساوتها ، ويشفيها من أمراضها ، ولكن لا بد لحصول هذا الأثر من توفر هذه الأمور الأربعة السابقة .
فإذا أردت الانتفاع بالقرآن فلا بد من تلاوته أو الاستماع إليه ، وهذا هو المؤثر .
وأما المحل القابل فهو القلب الحي السليم ؛ لأن اللَّه تعالى يقول : { إِنْ هُوَ إِلاَ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ @ لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا } [ يس : 70 ] ، فالقلب الميت المريض لا ينتفع بالقرآن .
وأما شرط الانتفاع فهو : { أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } ، فلا بد من الاستماع والإنصات ، ولا بد من تفرغ القلب عن الشواغل ، فالشواغل موانع تمنع من الانتفاع وإن حصل استماع ، فإذا حصل المؤثر وهو القرآن ، والمحل القابل وهو القلب الحي ، ووجد الشرط وهو الإصغاء ، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر ، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكرة .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } ، خلق السماوات والأرض آية من آيات إمكان البعث – كما سبق -: { أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] .
وقوله تعالى : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } تكذيب لليهود – عليهم لعائن اللَّه المتتابعة – حيث زعموا أن اللَّه تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استرا


