شبهات وردود
كتبه مدير التحرير : محمود غريب الشربيني
الحمد للَّه ، والصلاة والسلام على رسول اللَّه ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .. وبعد :
فإنه مما يحزن القلب ، ويدمع العين ، أن نرى من بين المنتسبين للإسلام ، بل من بين من عرفه الناس أنه من أهل العلم ، يقف ويعلن بملئ فيه رفض الأخذ بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، أو رده لأحاديث الآحاد منها ، أو تركه لأحاديث تتعارض مع العقل ، ولو كانت في (( صحيحي )) البخاري ومسلم ، فإذا سألت أحدهم عن ذلك ، ذكر لك عدة أدلة جعلته يقول بعدم حجية السنة على الإطلاق أو في مسألة بعينها .
فإذا تأملت في أدلتهم وجدتها إما أنها من باب الشبهات .. وإما أنها من النصوص العامة .. وإما أنه لم يجمع كل النصوص الواردة في هذه المسألة .. وإما أنه مجادل ، سواء كان هذا الجدل عن علم لهوى في نفسه ، أو عن جهل .. وما أكثر هؤلاء ، لا كثرهم اللَّه .
وعن الشبهة الأولى :
قالوا : إن اللَّه سبحانه وتعالى قال : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] ، قالوا : فإذا قلنا : إن القرآن يحتاج إلى بيان ، كان هذا تكذيبـًا للقرآن ، فطالما أن اللَّه سبحانه وتعالى نفى عن القرآن التقصير والتفريط في أمر من الأمور ، فلِمَ نأخذ بغيره حتى وإن كانت أحاديث من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم !!
وقالوا أيضـًا : إن اللَّه سبحانه وتعالى بين أن القرآن لا يحتاج إلى بيان ، بل هو تبيان لكل شيء ، فقال سبحانه : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] .
وقال أيضـًا : { هُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } [ الأنعام : 114 ] .
وقد استدل بهذه الآيات عدد من المنكرين حجية السنة ، الزاعمين أن القرآن في غنى عنها ، وهؤلاء المنكرين قديمـًا وحديثـًا منهم من رد السنة كلها ، ومنهم من رد بعضها .
فإلى هؤلاء وهؤلاء أقول : إن قول اللَّه سبحانه وتعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } المقصود بالكتاب هنا اللوح المحفوظ الذي اشتمل على كل شيء ، وقد قال سبحانه في هذه الآية : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ الأنعام : 38 ] ، وسبقت هذه الآية قول المولى سبحانه وتعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأنعام : 37 ] ، فالكفار في محاوراتهم مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طلبوا منه أن ينزل آية من السماء كبرهان على نبوته ، ولكن اللَّه سبحانه يرد عليهم أن كل شيء في الوجود مقدر بعلم اللَّه وإرادته ، ولو كان مقدرًا نزول آية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لنزلت ، ولكن اللَّه لم ينزلها مع القدرة على نزولها ، لعلمه الأزلي بهؤلاء ، فقد قال سبحانه وتعالى عنهم : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الأنعام : 7 ] .
فهو سبحانه لم ينزل الآية التي طلبوها مع قدرته عليها ؛ لأن الموجودات من البشر والجماد والحيوانات والطيور .. إلخ ، أمرها راجع إلى اللَّه ، وهي أمم متشابهة في كل ما أراد اللَّه لها من العمر والرزق والسعادة .. إلخ ، وكل هذا مدون في الكتاب المحفوظ .
ولو سلمنا أن المقصود بالكتاب هو القرآن ، وأضفنا قوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] ، وقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } [ الأنعام : 114 ] .
فماذا تقولون في قوله تعالى : { مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ النحل : 64 ] ، وقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] ؟!
ولكي تتفق الآيات ولا تتعارض ، لا بد من القول بأن القرآن الكريم مليء بالآيات التي فوض اللَّه سبحانه وتعالى فيها نبيه في شرح أحكامها .
وإن لم نقل بذلك ، فكيف نثبت عدد ركعات الصلاة وكيفيتها وعدد النوافل ، سواء منها الراتبة أو غير الراتبة ، وما نصاب كل نوع من أنواع الزكاة ، وما مقدار الخارج من كل زكاة … إلخ ، القرآن الكريم لم يتعرض لمثل هذه الجزئيات ولم يفصل ذلك ، ولكن وردت أحكام وقواعد عامة ، فصلتها وأوضحتها السنة .
ومن هذه القواعد العامة في القرآن قوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }


