وقفات مع القصة في كتاب الله
دعوة إبراهيم – عليه السلام – أباه وقومه (2)
فضيلة الشيخ / عبد الرازق السيد عيد
الحمد لله الذي ألْهَمَ عباده المرسلين الحكمة وفَصْل الخطاب ، وجعل في أقوالهم وأعمالهم ذكرى وأسوة لأولى الألباب ، وجعل محمدًا ، صلى الله عليه وسلم ، وأمَّته أولى الناس بإبراهيم ، عليه السلام ، القانت لربَّه الأواب . وبعد ..
قال تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ(69)إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75) أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ(76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) [ الشعراء : 69 – 82] .
تحدثنا في مقال سابق بما أفاء الله به من حديث عن أدب دعوة إبراهيم – عليه السلام ، لأبيه ، وتلك كانت دعوة خاصة بدأ إبراهيم بها أباه ، وهذه دعوة عامة انتقل بها إبراهيم ، عليه السلام ، إلى المجتمع الذي يشمل أباه وقومه ، والله سبحانه وتعالى يقول لرسوله وحبيبه محمد ، صلى الله عليه وسلم : اتل عليهم يا محمد خبر إبراهيم ، عليه السلام ، وهو يدعو قومه .
ولماذا أمر الله نبيَّه محمدًا ، صلى الله عليه وسلم ، أن يتلو علينا هذه القصة وغيرها من القصص ؟ لنتعلم دروسًا وعبرًا ، ونستلهم منها حكمة وأدبًا : ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [ يوسف : 111] ، وفي هذه الآيات ما يلى :
1 – يسأل إبراهيم ، عليه السلام ، قومه مستنكرًا عليهم متعجبًا من حالهم ، في اتخاذهم أصنامًا لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ، يعكفون على عبادتها .
2 – وتأتي الإجابة أكثر عجبًا فهم قد فعلوا ذلك ؛ لأنهم وجدوا الآباء والأجداد يفعلون ذلك .
وهذا هو التقليد الأعمى ، والحجة الواهية التي تعلق بها كل من انحرف عن منهج الرسل ، أو لو كان الآباء لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون ؟ أين عقولكم أيها القوم وقد جاءكم الهدى ورسول مبين ؟!
3 – يعلن إبراهيم عليه الإسلام ، براءته من هذه الآلهة المزعومة ، وعداوته لها ، بل ويعلن ضجره وتأففه من صنيع قومه ومن آلهتهم : ( أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) [ الأنبياء : 67] .
4 – وهذا تدرج حكيم في الدعوة ، فقد بدأ معهم متسائلاً موجهًا ناصحًا ، ثم بيّن لهم عجز آلهتهم وضعفها فضلاً عن إمكانية نفعها وضرِّها ، ولكن القوم أصرُّوا على اتباع أهوائهم وتقليد آبائهم فلم يكن هناك بُد من تنبيههم إلى ضلالهم وضلال آبائهم من قبلهم : ( لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) [ الأنبياء : 54] ، ثم أعلن براءته مما يعبدون كما تقدم ، ثم أعلن ضجره ، ثم هدَّدهم بعد ذلك تهديدًا واضحًا صريحًا : ( وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) [ الأنبياء : 57] .
ولم يقف إبراهيم ، عليه السلام ، عند حد التهديد والوعيد ، بل نفَّذ فعلاً ما هدَّد به وحطَّم آلهتهم بفأسه ، وهذا مشهد يدل على البطولة النادرة وقوة البأس ورباطة الجأش لا يقدر عليه إلا أولي العزم من الرسل ، حيث يواجه رجل واحد أعزل من كل سلاح إلا سلاح الإيمان ، ويواجه قومه بكل ما يملكون من سلطان الملك والكثرة ، ويتحدَّاهم في أعز ما يملكون ، في آلهتهم المزعومة ، ويأتي عليها واحدًا واحدًا ، فيجعلها جذاذًا ، وقد سبق الإشارة إلى هذه القصة بما يغني عن إعادتها هنا .
5 – بعد أن بيَّن إبراهيم ، عليه السلام ، فساد عقيدة القوم ، وضلال عبادتهم ومعبوداتهم ، أخذ يوضح لهم حقائق التوحيد الخالص ، ويبين لهم صفات ربَّه الذي يعبده – وهو الحقيق بالعبادة سبحانه – لأنه سبحانه الذي خلق وهدى وهو الذي أطعم وسقى ، وهو الذي أمرض وشفى ، وهو الذي أمات وأحيا ، وهو سبحانه الذي يرجى لمغفرة الذنوب .
6 – ومن باب الأدب في الخطاب مع الله أسند إبراهيم عليه السلام ، المرض لنفسه والشفاء إلى الله تعالى فقال : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) [ الشعراء : 80] ، والمرض والشفاء بإذن الله .
7 – هذا هو منهج إمام الأنبياء في دعوته يجلَّى حقائق التوحيد أمام قومه ويقيم بها الحجة ع


