موضوع العدد
من مدرسة الحج والصبر
خواطر حاج
بقلم الدكتور / محمد بن سعد الشويعر
مستشار مكتب سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية
الحج جامعة متكاملة بها شعب وفنون ، وعلوم ومعارف ، فهو يوطن النفوس ويثقفها ، وهو يهديها ويعلمها ، فمن مدرسته تنهل النفوس ، وترتوي الأفئدة .
والحج كسائر العبادات في الإسلام ، علاوة على كونها عبادة تؤدى لله خالصة من القلوب ، واستجابة للأمر الذي فرضه الله سبحانه : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) [ آل عمران : 97] .
فإن هذا الأمر يربط المخلوق بالخالق ، ويرقق القلوب التي تؤدي هذه العبادة بنفس راضية ، ورغبة فيما عند الله … ومع هذا فإن هذه النفوس تخرج من كثير من العبادات في الإسلام بفوائد تلمسها ، ونتائج تحسها ذات أثر في الحياة معينة على تخطي صعابها وتجاوز عقباتها .
والنفوس المتروية بمنهل الإسلام ، والمتشبعة من معينه ترجع الفوائد والاستنتاجات إلى ما يؤثر في النفوس ، ويعود على المجتمع بالخير والنفع وفق إطار الإسلام وقيمه العليا التي يتأسس عليها المجتمع المثالي بقيمه وأخلاقه ، ووفق المعايير التي تحاول كثير من الأمم والأفراد على وضعها بنماذج المثاليات التي تتطلع إليها ، فالإسلام بشرائعه وتعاليمه ، وباستنتاجات العارفين من كل فن عن المردود من أوامره ونواهيه ، فإنه يأتي في القمة من كل أمر وفي المكان الرفيع من كل نتيجة .
ويتضح مثل هذا مما أجراه الدارسون من مسلمين وغيرهم عن المردود لكل عمل يقوم به الفرد في الإسلام ، مما يعود عليه وعلى أبناء مجتمعه بالخير والفائدة .
وهذه النتائج شهادات لمن لا يؤمنون إلا بما هو محسوس وملموس بأن الإسلام علاوة على كونه بشرائعه مخاطبة للوجدان ، فهو رفيع المنزلة بالفوائد بعيدة المدى ، التي تتجدد نتائجها مع كل جديد يطرأ في حياة الإنسان على وجه الأرض ، وفي هذا دلالة على عالمية الإسلام وديمومته ، وصلاحه لكل عصر ومكان .
سنأخذ اليوم درسًا من دروس الحج في الصبر ؛ لأن للصبر مكانة كبيرة في الإسلام ، فهو محور الأعمال ؛ والمسيطر على الانفعالات وسائر التصرفات .
وللصبر مكانة عامة في عقيدة الإسلام ، ومنزلة خاصة في كل عبادة من العبادات ، فهي تنميه وتقويه ، وتؤصله وتدفع النفوس للتخلق به .
وفي الحج نلمس مكانة الصبر في تهذيب النفس وتوطينها على أمور عديدة ، فعندما تسير مع الحاج منذ أن يبدأ فكرة الحج ويستجمع نفسه وشئونه للمسير في رحلته التعبدية مع الله في استجابة للأمر وطواعية في التنفيذ ، فإننا نلمس منه أمورًا .
يتصبر في النفقة والتوسيع على نفسه حتى يجمع نفقة الحج التي يحرص بأن تكون من مكسب حلال ، فيصبر على الشدة ، ويصابر نفسه عن الوقوع في الحرام ، أو أن يدخل مكسبه جزءًا من الحرام .
وما ذلك إلا لأن الحج عبادة ، والعبادة لابد أن تكون مؤداة بطيبة نفس ، وطيبة مكسب ، وطيبة عمل : ( فالله جل وعلا طيب ، ولا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبًا ) .
ثم يصبر المحرم عن أشياء محظورة عليه ، هي في حياته العادية أمور مستحسنة عنده ، وترغب فيها النفس ؛ فالطيب ولبس المخيط والأخذ من الشعر والظفر ، ومقاربة النساء وغيرها من المحظورات ، يجد الإنسان مشقة في تركها ، ولكنه الصبر الذي يحرص الإسلام على تمكينه من أبنائه في أعمالهم وقلوبهم ، ويتمثل هذا الصبر في كل شعيرة من شعائره .
فالحاج يغالب نفسه ويدافعها عن الوقوع في هذه المحظورات ، وكلما حاولت نفسه الاقتراب دفعه الصبر وحال بينه وبين مقاربة هذا الأمر .
فالطيب والنساء قد قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حبب إليَّ من دنياكم : الطيب والنساء ) . وهما مما أباحه الله للإنسان ، لكنهما في الإحرام وطيلة أيام معينة من الحج ، ما دام الحاج لم يتحلل التحلل الأكبر يعتبران من المحظورات اللاتي لابد أن يصبر الحاج ويغالب نفسه عن عملها امتثالاً للأمر واجتنابًا للنهي ، مع أنها من مألوفات حياته ، والأشياء المألوفة التي تملك النفس ، وذلك لكي يخرج الحاج بدرس جديد ، وهو أنه بالصبر يتم به قهر النفس والتحكم فيها والتغلب على نوازعها ، كما أنه لابد من وضع هدف لذلك الأمر ليزيد النفس حماسة واندفاعًا ورغبة في العمل ومحافظة على الجهد ، والهدف في الحج هو الأجر الجزيل الذي وعد به الحج المبرور .
والمرأة تصبر عن الزينة والتجمل وهي مفطورة على هذا وجزء من كيانها وحياتها ؛ لأن في إحرامها تعويدًا لها على العمل الذي تستفيد منه في السيطرة على نزعات النفس ، وعدم الاستسلام لرغباتها .
وفي الإحرام للرجل والبقاء على هذا اللباس من قطعتين غير مخيطتين ، وبدون غطاء للرأس فترة طويلة هي المدة ما بين عقد الإحرام والتحلل الأصغر .
كل هذا فيه تعويد للنفس على التحمل ،


