حوار الابن البار مع أمه
قصة قصيرة من واقع الحياة المصرية تشتمل على العقيدة الصحيحة وأدب الحوار
بقلم الشيخ / حسن الجنيدي
كانت البيوت إلى عهد قريب من زماننا ذات نظام واحد وتصميم متشابه ، وكان المرء إذا دخل بيتًا من البيوت يجد صالة فسيحة في أرجائها أبواب تؤدي إلى غرف النوم ، فإذا أصبح الصبح وخرج أفراد الأسرة من غرف نومهم وقضوا حاجتهم يجتمعون في هذه الصالة الفسيحة التي كانت بمثابة غرفة للمعيشة ولتناول الطعام في آن واحد ، وفيها أيضًا يستقبلون معظم زائريهم ، أما غرفة الاستقبال – إذا وجدت – فكانت لا تُفتح إلا للغرباء القادمين من بلد بعيد ، لهذا كانت تسمى (غرفة المسافرين) .
واستكمالاً لصورة من صور الحياة في هذا الزمان غير البعيد نذكر أن ربات البيوت لم يكن في هذا الزمان يعرفن الخروج إلى الأسواق أو السير في الطرقات إلا للضرورة ، إذا عجز رب البيت عن القيام بإحضار لوازم بيته لمرض أو نحوه ، ولم يكن أيضًا يعرفن الجلوس أمام البيوت – كما هو شائع اليوم في الريف وفي الأحياء الشعبية بالمدن – فلم تكن أقدامهن يطئن عتبات المنزل خلال العام الواحد إلا مرات معدودات لشراء ملابس للأسرة في الأعياد ، أو لزيارة الأقارب ، وهذه صورة مختلفة تمامًا عن واقعنا اليوم بعد أن تعلمت المرأة وخرجت للعمل وشاركت الرجل في معظم وظائف الحياة .
وبطلة هذه القصة القصيرة أم من هذا الطراز ، فهي ربة منزل تقضي جل وقتها في تدبير شئون منزلها وحضانة أبنائها الصغار ، فهي المربية والحاضنة ، وهي المرضعة ، وهي التي تغسل الملابس والأواني ، وتعد الطعام ، وتنظف البيت ، فكانت تجمع بين وظيفة ملكة النحل في خلية النحل ، ووظيفة النحلة الشغالة في آن واحد ، وقد رزقت هذه الأم الدءوب بخمسة أولاد أفنت نفسها وصحتها في تربيتهم ونظافة أبدانهم وملابسهم وإعداد طعامهم ، وكان ولدها الأوسط – واسطة العقد – هو أعدلهم وخيارهم ، فقد منَّ الله عليه بصحبة رفاق من الأخيار من أترابه وزملائه بالمدرسة ، فأهدوا إليه كتبًا دينية عكف على قراءتها وعلى قراءة سيرة الأنبياء والمرسلين ، حتى اكتسب علمًا نافعًا ، ثم شرع في حفظ القرآن الكريم على كبر ، بعد أن درس علم البلاغة والبيان ، فازداد حبًا وإقبالاً على كتاب الله ، وساعدته ملكة الحفظ التي حباه الله بها على إتمام حفظ القرآن العظيم وتجويده على يد إمام المسجد المجاور لمنزله ، ثم أخذ بنصيب وافر من سنة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ، حتى رسخت قدمه في المحاورات الإسلامية ، وكان يحلو له أن يحاور أباه مدرس الكيمياء ، فيتعجب الأب الذي لم يكن عنده من كتاب الله بعد (الفاتحة) ، وجزء (عم) سوى سورة (يس) ، فيقول لابنه الذي لم يبلغ بعد سن العشرين : يا بني ، أنت دائمًا تذكرني كلما حاورتك في الدين بقول الله عز وجل في سورة (مريم) على لسان إبراهيم ، عليه السلام : ( يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ) [ مريم : 43] ، فيضحك الابن فرحًا بشهادة أبيه له ، فيقبل على بر والديه عملاً بما حفظه من الكتاب والسنة .
اعتاد هذا الابن البار أن يجلس في غرفته المخصصة له ولأخيه الأكبر يستذكر دروسه وباب الغرفة مفتوح على الصالة مثل سائر غرف المنزل ، واعتادت أمه أن تجلس على أريكة في نهاية هذه الصالة تحيك الملابس وترتق الجوارب أو تجهز طعامًا قبل إنضاجه ، فكان الابن يسمع والدته إذا قامت من مجلسها أو جلست على الأريكة تهتف باسم ولي من أولياء الله الصالحين ، أو تنادي آل البيت ، وتطلب منهم المدد والغوث ، فلم يشأ الولد أن يدخل في جدال مع أمه كما كان يحاور أباه ، لكنه آثر أن يتبع معها أسلوبًا آخر هو أشد وطئًا وأقوم قيلاً ، اختار الابن أن يجهر بآيات من كتاب الله الذي جمعه الله في قلبه ليصرف أمه عن دعاء غير الله متمنيًا على الله أن يهديها للإخلاص في عبادته ، فلا تدعو مع الله أحدًا ، وقال الابن في نفسه : ليس على ظهر الأرض بيانًا أفصح ولا برهانًا أوضح ولا حجة أبلغ من كتاب الله ، ثم تلا قوله تعالى : ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) [ الأنعام : 149] .
وبعدها حدث نفسه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (استعن بالله ولا تعجز) ، فصارت الأم بعد ذلك كلما نادت وليًا من أولياء الله الصالحين تسمع ولدها وهو في غرفته يترنم بصوت مرتفع تارة بقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [ الأعراف : 194] ، فتتعجب الأم ، وتقول في نفسها : هل ولدي يخاطبني بهذا القرآن أم يخاطب نفسه ؟! ثم تسكت على مضض ، وتارة أخرى سمعته يتغنى بصوت رخيم بقوله تعالى : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ


