باب السيرة
اللقاء الثاني بين يوسف عليه السلام وإخوته
بقلم الشيخ / عبد الرازق السيد عيد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين .
أخي القارئ الكريم ، وقفنا معًا في لقائنا السابق عند استعداد الإخوة للرحيل متوجهين إلى مصر بغرض الحصول على الطعام بعد موافقة أبيهم على اصطحاب أخيهم الذي طلبه منهم يوسف عليه السلام .
وقد اشترط عليهم أبوهم وأوصاهم بالأخذ بالأسباب والاعتماد على رب الأسباب ، وهنا نصل معًا إلى وقفتنا الجديدة اليوم ، والتي ستكون – بحول الله وطوله ومدده - كما يلي :
أولاً : مع قوله تعالى : ( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [ يوسف : 69] .
هذا هو الدخول الثاني لإخوة يوسف على يوسف عليه السلام وهو عزيز مصر ، وقد عرفهم منذ دخولهم عليه لأول مرة ، وهم لم يعرفوه وما زالوا حتى الآن لا يعرفونه ، وهو لم يخبرهم عن نفسه بعد ، لكنه اختلى بأخيه الشقيق وأخبره عن نفسه وبما هو عازم عليه من خطة لاستبقائه معه في مصر .
ذلك حتى يكون أخوه على بينة من أمره ولا يحدث له شيء من الخوف أو الفزع ، وكذلك أراد إكرام أخيه بهذه الخصوصية تمهيدًا لجمع الشمل .
قال ابن القيم : ( وإنما لم يعرِّف إخوته بنفسه لأسباب فيها منفعة لهم ولأبيهم وله ، وتمام لما أراد الله تعالى بهم من الخير في هذا البلاء ، وأيضًا فلو عرَّفهم نفسه في أول مرَّة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم ، ولم يحل ذلك المحل ، وهذه عادة الله سبحانه في الغايات العظيمة الحميدة ، إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ لها أسبابًا من المحن والبلايا والمشاق ، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنَّة إليها بعد الموت ، وأهوال البرزخ ، والبعث والنشور والموقف والحساب ، والصراط ومقاساة تلك الأهوال والشدائد ، كما أدخل رسوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج ، ونصره ذلك النصر العزيز ، بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه ) . انتهى كلامه ، رحمه الله .
وقد بيَّن بعض الحكم والأسرار العظيمة في عدم إخبار يوسف عليه السلام إخوته بنفسه في المرتين الأولى والثانية .
ثانيًا : مع قوله تعالى : ( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ(70)قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ(71)قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ(72)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ(73)
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ(74)قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) [ يوسف : 70 – 76] .
تتحدث هذه الآيات الكريمة عن الحيلة التي استخدمها يوسف عليه السلام لاستبقاء أخيه معه ، ومن المهم هنا أن نشير إلى أن ما فعله يوسف عليه السلام هو من تدبير الله ، كما أرشدنا إلى ذلك ربنا سبحانه وتعالى في قوله : ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) .
فالذي كاد حقيقة هو الله سبحانه ، والذي فعل هو يوسف عليه السلام بتعليم الله له وتوفيقه إليه فكان ذلك من أحسن الكيد وأشرفه ، وقد عدد ابن القيم ، رحمه الله ، وجوهًا للطف ذلك الكيد وشرفه ، نذكر منها مختصرًا ما يلي :
1- منها : أنه لما جهزهم بجهازهم في المرَّة الثانية جعل السِّقاية في رحل أخيه ، وقد ذكرنا فيما سبق أن يوسف عليه السلام أخبر أخاه بهذا الأمر ، وهذا الذي عليه أكثر أهل التفسير .
2- ومنها : أنه لما أراد أخذ أخيه ، توصَّل إلى أخذه بما يقرُّ إخوته أنه حق وعدل ، ولو أخذه بحكم قدرته وسلطانه لنسب إلى الظلم والجور ، فوضع الصواع في رحل أخيه بمواطأة منه على ذلك ، ولهذا قال : ( فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون ) .
3- ومنها : أنه لم يفتش رحالهم وهم عنده ، بل أمهلهم حتى خرجوا من البلد ، ثم أرسل في آثارهم ، فهذا أحسن وأبعد من التفطن للحيلة من ال


