موضوع العدد
الهدف من العقوبة والقصـــــــد منهــــا
الحلقة الأولى
بقلم الدكتور / طارق الخويطر
شرع المولى عز وجل الحدود حماية للمجتمع من التفكك والانحلال ؛ لأن الجرائم ما إن تهب رياحها في أي مجتمع إلا وتظهر فيه راية الحقد ، وتُسكب في النفوس البغضاء ، ويلوح الخوف السرمدي الذي يعكر صفو النفوس ، فتصبح حياة همجية يفقد فيها الأمن ويئد أفراد المجتمع كل أواصر المحبة والإخاء ، ويكون بنيان المجتمع متهالكـًا على شفا جرف هار يعصف به كل شيء فتغدو الحياة كريهة لا تطاق .
ومما شرع اللَّه تعالى لإرساء دعائم الأمن حد السرقة ، وهو قطع اليد اليمنى للسارق متى ما تمت شروط القطع ، فحد السرقة فيه صيانة أموال المسلمين عن التلف ، وصيانة السارق عن السرقة ؛ فإن من سرق أسرف إذا حصل له مال مجموع غير مكسوب ، ولا شك أن السرقة إنما تنشأ من لؤم في الطبع ، وخبث الطينة ، وسوء الظن باللَّه تعالى ، وترك الثقة بضمان اللَّه تعالى ، وترك الاعتماد على قَسْم اللَّه ، قال تعالى : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] ، وقال تعالى : { فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [الذاريات : 23]، فجوزي بالعقوبة لهذه الأنواع من الجناية.
وآخر أن مالك المال يعتمد عصمة اللَّه تعالى في حال نومه وغفلته وغيبته ، والسارق ينتهز هذه الفرصة ولا يبالي من هذه العصمة ، فجازاه اللَّه تعالى بقطع العصمة من آلة الجناية وهي اليد ، فإنه بها يتمكن من السرقة – في غالب أحواله – ثم الحسن فيه أنه جوزي بالقطع لا بالقتل ؛ لأنه فوت على المالك بعض المنافع ، فيجازى بتفويت بعض المنافع(1) .
إن السارق مجرم ولا شك يستحق العقاب ، ولكن ثم عقوبات يعتقد بعض الناس أنها تجدي كالضرب والحبس والإبعاد ، ولكنها لا يلبث أن ينساها السارق ، فهذه العقوبات تردع لوقت قصير ، تزول بعده هيبة الجريمة من السارق ، فيعود لإجرامه ويشقى مجتمعه به مرة أخرى ، والواقع المشاهد يشهد لذلك ، فالدول التي لا تُطبق شرع اللَّه تفوح فيها رائحة الجرائم ليلاً ونهارًا ، أعرضوا عن شرع اللَّه فزادت أتراحهم ، وتبددت أحلامهم ونزفت جراحهم ، يعيشون حياة رعب وخوف ؛ فَشُلَّ تقدمهم وأطيح بأحلامهم وسلبت سعادتهم ، تحفهم الخطوب وتعلو وجوه أفرادهم الكآبة ، كيف لا وقد زرعوا بذور الشر ، فماذا يكون الحصاد ؟!
إن قطع يد السارق فيه مصلحة له ولمجتمعه ، فالسارق يحمل عضوًا فاسدًا يجب استئصاله من جسمه ، حتى لا يدب الفساد فيه ، كالمريض عندما يقرر الأطباء استئصال جزء من جسمه لمصلحته لتبقى له حياة ، وفوق ذلك قطعها تكفير لذنبه الذي ارتكبه لتعود صحيفته بيضاء كما كانت قبل فعله ، وأما مجتمعه فيعيش أفراده ذكرى دائمة كلما رأوا هذا الشخص نمت ورسخت في نفوسهم هيبة السرقة وعظم عقوبتها ، فيبتعد الجميع عن هذه الجريمة حتى إنه لم تقع في المجتمع الإسلامي في سنين طويلة إلا سرقات تعد على رءوس الأصابع .
ومع أن المجتمع الإسلامي يعيش في ظل تطبيقات الشريعة الغراء حياة هنيئة ينعمون بالخيرات ويسقون كل خلق حسن ، أبى الأعداء إلا أن يشككوا المسلمين في دينهم ، والشك داء عضال لا يفتأ أن يفتك بصاحبه ، دأبوا لهدم صرح الإسلام ، فسلوا سيوفهم ، ولكن هذه المواجهة لم يفلحوا فيها ، فاتجهوا إلى المحاربة الفكرية ؛ لأن القوى تخور بعدها ، فبدءوا يخرجون على العامة باللفظ الجميل ، فاستجاب لهم بعض من نفخ الشيطان في آذانهم ، وهذه المحاربة ليست جديدة ، وإنما هي منذ ظهور الإسلام وسقوط أعظم الدول كفارس والروم ، لقد ساء الأعداء قديمـًا وحديثـًا انتصار المسلمين وانتشار الإسلام ، فرسموا مخططات لهدم الدولة الإسلامية ، وبرز النفاق في أماكن شتى بصورة أوضح من السابق .
إن منافقي اليوم هم أحفاد المنافقين الأول ، وما يبثونه من أسئلة بغرض التشكيك هي التي نبح بها أجدادهم ، غاية ما هنالك اختلاف الأساليب لاختلاف العصر .
ولقد هيأ اللَّه تعالى علماء أفذاذًا نافحوا عن دينه وذبوا عنه بكل ما يستطيعون ، ظمئت هواجرهم ونحلت أجسامهم خدمة لهذا الدين ، هم الشم المناجيد ، جعلوا سيوفهم مُسلطة على شبه الأعداء حتى قتلوهم ، جاهدوا في اللَّه حق جهاده ، حتى توارت فلول الأعداء ، شمروا عن سواعدهم وقدموا أقلامهم وألفوا مؤلفات كثيرة أبرزوا فيها محاسن الإسلام ، وذكروا كثيرًا من الحكم التي تغيب عن كثير – حتى – من أبناء الإسلام ، فكان الشك عند كثير من المسلمين لا يدوم إلا مثل ما تبرق في الجو بارقة وتختفي ، وعلى رأس هؤلاء العلماء العلامة ابن القيم – رحمه اللَّه رحمة واسعة – فقد أفرد مصنفات لبيان الأسرار في الشريعة الإسلامية .
وسأذكر هنا بعض الشبه والاعتراضات التي أوردها المنافقون والزنادقة ، ثم أذكر جواب أهل العلم عنها ، وهذه ا


