الهجرة المحمدية حدث غير وجه التاريخ
بقلم
فضيلة الشيخ عبد الفتاح إبراهيم سلامة
الحلقة الرابعة
المؤامرة
كانت بيعة العقبة الثانية تتضمن عهدًا من الأنصار بنصرة رسول اللَّه ومظاهرته.. حتى لقد قال العباس بن عبادة الأنصاري للرسول بعد أن أتم البيعة: (واللَّه- الذي بعثك بالحق- إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا).
فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: ((لم نؤمر بعد ولكن ارجعوا إلى رحالكم)).
ونمت أخبار هذه المعاهدة إلى قريش، وكانت أول الأمر في شك منها، ولكنها استوثقت وبانت لها جلية الأمر، فطار صوابها وداخلها من الأمر هم عظيم، وأضحت أمام مرحلة خطيرة من مراحل صراعها مع النبي وأصحابه.
واجتمع القرشيون يفكرون في كيفية التخلص من (صاحبهم) الذي يريد أن يطمس على وثنيتهم، وأن يجلي- بمدد اللَّه- آية الحق مبصرة.
ووجدت قريش أن سجن الرسول أو نفيه من الأرض، لا يحول دون خطره الذي إن ترك دون مقاومة استأصل شأفه باطلهم.
وقادهم الهوى الأعمى، والشيطان الغرور، إلى أن يختاروا من كل قبيلة شابًا فتيًا جلدًا، وأن يمنحوهم سيوفا باترة ليضربوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، ثم لا يقدر بنو هاشم على حرب قومهم جميعًا قصاصا لقتل الرسول فيرضون بالدية. فتعطى لهم.
وأحاط الفتية المأجورون بدار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرقبونه، وينتظرون خروجه… وخرج رسول اللَّه مارًا بينهم، وهم قيام ينظرون، ولكن اللَّه أغشاهم فهم لا يبصرون، وذهب إلى دار أبي بكر، وكان قد أعلمه قبل ذلك بساعات بما سيكون من أمرهما وأوصاه بالكتمان.
الأمانة… والساعات حالكة
كان الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا أعلى للأمانة، فكان بعض المكيين يجعلونه أمين ودائعهم، ومستودع أموالهم.. ولم يتزحزح رسول اللَّه رغم الأخطار التي كانت تحوطه عن القيام بهذا الواجب الإنسانى النبيل.
وأذن للرسول بالهجرة، وعنده هذه الودائع، ولا بد من أداء هذه الأمانات إلى أصحابها، وبعضهم من المشركين.. ولكنها الأمانة!..ومكة آذته وأخرجته، وأصحابه قد تركوا خلفهم ديارهم، وأمتعتهم، وأموالهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم أرفع من الحقد، وأنزه من أن ينتقم إلا بالحق والعدل.
ولكن من يؤدي هذه الأمانات إلى المكيين؟
إنه ربيبه، وحبيبه، وابن عمه (علي) رضي اللَّه عنه.
الفدائية… والموت متربص
نام الفتى (علي) على فراش النبي المفتدى، وتسجى ببرد النبي الحضرمى الأخضر، وأحاطت به تسعة سيوف صقيلة بَتَّارة يدفعها هوس حاقد، ويحضها كفر أعمى، وكلما مرت بهم برهة نظروا إلى سيوفهم الظامئة إلى الدم، واستبطئوا خروج النبي، ويتقدم أحدهم في تؤدة مصطنعة لينظر من فرجة، فيرى الراقد المسجى في برده الأخضر، ويتراجع ليطمئن أصحابه أنهم لم يخطئوا بغيتهم،ويمر وقت آخر، وتتكرر مراجعة النظر، ومعاودة الأمل. النائم هانئ قرير العين، والقتلة في اضطراب وقلق، وأما بغيتهم فما إلى نيلها من سبيل.
وطلع الفجر، وساء صباح المشركين،وأنعم بصباح المؤمنين، وكان فجرًا يحمل بشائر الخير للأرض كلها.
وأما (على) الذي بات المشركون يحرسونه وهم لا يشعرون، فقد أدى الودائع وبلغ الأمانات، ثم أخذ طريقه ليلحق بمجتمع الخير والهدى والرشاد.
الرحلة
ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى دار أبي بكر، وكان أبو بكر قد أعد راحلتين ارتقابا لهذا الأمر، فاشترى رسول اللَّه من أبي بكر إحدى الراحلتين بالثمن، وأبى أن يتقبلها هدية من أبي بكر ليكون له أجر الهجرة بنفسه وماله، وخرج رسول اللَّه من باب صغير خلف دار أبي بكر ومعه أبو بكر إمعانًا في السرية والتكتم.
حنين ووفاء:
ورغم كل ما نالت به مكة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أذى وتضييق، وانتهى بها الحقد إلى التآمر على حياته، رغم ذلك وقف عند مغادرته لها متجهًا إلى البيت الحرام، مخاطبًا مكة:
((واللَّه إنك لأحب بلاد اللَّه إلى اللَّه، وإنك لأحب أرض اللَّه إليَّ، ولو أهلك أخرجونى لما خرجت)).. هكذا، وفي هذه اللحظة التي هي من أحرج لحظات الحياة لم يتكلم إلا بالخير، وما تكلم بغيره قط، ولم يعرف إلا الوفاء وهو خلقه الدائم، تنزه عن الحقد في لحظة يعذر فيها إذا حقد، وترفع عن التعبير الأليم، والألم مفترض في هذا الموقف وأشباهه.
الثقة باللَّه لا تنافى الحيطة:
مع أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبه كانا في ثقة واثقة ومعية كاملة لله رب العالمين، إلا أن ذلك لم يمنع من أخذ الأهبة الكاملة، والحيطة البصيرة. وتتمثل فيما يلى:
1- الخروج سرا، وفي جنح الظلام.
2- الخروج من خوخة في باب خلفى لدار أبي بكر.
3- سلوك طريق غير مألوفة للسائرين.
4- القصد إلى غار بجبل ثور، والمكوث به ثلاثة أيام للتعمية، ولتحيير أهل الشرك، وحتى تفتر حدة الطلب.
5- أخذ الطعام والزاد قبل الهجرة.
6- تأمين وصول الزاد يوميا بما كان يفعله عامر بن أبي فهيرة من رع


