باب الأدب
فضيلة الشيخ / السيد عبد الحليم
المصلح الأكبر
ألق نظرة عجلى ، في لمحة خاطفة ، متفحصًا في ومضة بارقة ، على أحوال البشرية في هذا العصر ، تجد عالمًا مضطربًا ، بشرية متعثرة في دَياجِيرَ مُدْلَهِمَّة ، لا تدري كيف تسلك السبيل إلى المثل العالي ؟! فتراها متباينة في أخلاقها ، متصدِّعة في ألفتها ، قد انقصمت على أخوَّتها ، وبترت أسباب شملها ، فافترقت بها السبل ، وتشاكست النفوس ، واستمرت العدواة والبغضاء بينها ، فمن قويٍّ يجنف على ضعيف بقسْوَة لم تهتِد إلى الرحمة سبيلاً ، إلى حاكم يُسيِّر رعيَّتَه لخيره وحده .
لم تتواضع هذه البشريَّة المصطخبة الجياشة ، على شِرْعَةٍ موحدة ، أو منهاج يوضح السبل ، بل ترى كل فرد قد ركب رأسه ، وَوَلَج مُهْيَعَهُ متعرِّجًا في نزعة ثائرة صاخبة ، لم تلج باب الحكمة والأناة والتبصُّر والتدبُّر … هنا أمة تتأهب لغزو أخرى ، وهناك شعب يئن من ظلم فادح ، وقَسْرٍ مرهق ، قد استحكمت ربْقَة العُبُودية في عنقه ، فطفق يتلمَّسُ سُبُل الخلاص ، فلا يجد لمعة من أمل ، أو ظهيرًا يعينه على إدراك طلبته ونوال حريته .
نرى هذا قد كشَّر عن أنياب دامية محدودة ، يتوثَّبُ لينْقضَّ على أخيه ، وذاك يُقلِّبُ وجوه الرأي متربِّصًا دائرة السوء يمناجزة .
هذه هي الإنسانية تسير على أبواب مُرداة بعيدة الغور ، تتقاذفها مؤثرات نفسيَّة ، وتقاليد مقوضة ، ونظم وعادات فاسدة ، ووراثات جائحة جارفة … فلو التفتَّ مقلبًا بصرك فيما حواليك ، لما وقع على نفوس تدرَّعت بالحلم ، واستنارت بنور العلم ، نفوس وشجت فيها الرحمة ، أو نبَتَ غرْسُ العطف .. لهذا حار علماء الاجتماع في تعرُّف سرِّ هذا الداء الذي استطار شرره ، وتعاظم ضرره ، فمن قائل : إن ( الرأسمالية ) هي الداء الذي نغل في جرحها وتمكن من تقويض هيكلها ، ذاهبًا إلى أن خير مبضع لشطره ، وداءة لاستئصال شأفته ( الاشتراكية) ولو أنهم اتَّادُوا ، وتريثُوا ، ونظروا بعين خالصة من كل هوى ، لعلموا أن علاجهم بين أيديهم ، ودواءهم أمام ناظريهم فهو مركوز في وحى ربهم ومذخور في هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم :
فمن العجائب والعجائب جمةٌ
قرُبَّ الدواء وما إليه وُصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول
إن انتماء البشرية لآدم ليربط الكون بما فيه برابطة وثيقة من أصل الوجود ، ينادي على ذلك قول الله : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم ) [ الحجرات : 13] . ( وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) [ الروم : 20] .
وقد ثبت في أحدث النظريات العملية التي تسير مع القرآن جنبًا إلى جنب أن أصل الإنسان واحد ، وإن ترامت به الأقطار ، واختلفت الألوان ، وتباينت اللغات ، وافترقت النظم والعادات ، فَلِمَ إذًا هذا التدابر ، وذاك التناحر والتنافر ؟ ولم هذه الغواية المتأثلة في النفوس ، وتلك الضلالة المتمكنة في الأفئدة والقلوب . ودواء هذا الداء دَانٍ منا قريب ؟!
وإذا كان لا بد لبني الإنسانية من الاجتماع على خير فاعلم – قيض الله لك الرشد – أن هناك شرعة بينة محكمة ، ومنهاجًا مشرفًا مضيئًا ، معبَّدًا منقادًا ، يوحِّد صفوفها ، ويؤلف بين قلوبها ، كما كان في عصر أقرب مثلاً ، وأدنى مشابة من عصرنا هذا ، حينما كانت دولتا الفرس والرومان تسومان العالم ظلمًا ، وترهقانه حيفًا .
فمن شرائع فاسدة استغلها الأشراف لمصالحهم ، وتكميل دواعي سرفهم ، وتفنكهم ، إلى تدهور خلقي شامل ، وفساد عادات مستحكمة ، وانتثار ألفة مُحْصد ، وتصدُّع وحدة ترجُف جوانبها ، ووهى شُعَبَهَا .
لولا أن أشرقت تلك البعثة في بطن غير ذي زرع ، فأضاءت لها أرجاء العالم ، واقتطفت من ثمار هداية تلك الروح الملهمة رشدًا وعزة وسعادة ، فتوحدت جهودها ، وتضافرت على المجد أسس عزتها .
ولئن كان يقول بعض علماء النفس : إذا أردت أن تصبغ العالم بصبغة دينية ، أو علمية ، أو سياسية ، وتجعله يدين لفكرة واحدة ، ويسعى لهدف موحَّد ، فما عليك إلا أن تغرس تلك الفكرة في نفوس النشئ الحديث ، فلن تمضي حقبة إلا وقد نما ذلك الزرع واستحصد ، وآتى أكله ضعفين ، كل حين بإذن ربه .
وما هي تلك الفكرة النبيلة الغاية ، الشريفة المقصد ، التي تنتشر بها ألوية المحبة خفاقة ؟ وما هو ذلك الهدف السامي ، الذي إذا ولينا وجوهنا شطره ، وعملنا على تحقيقه ، بدَّل الضعف قوة ، والذلة عزَّة ، والفقر غنى ، والتفرقة وحدة وألفة ، والجبن شجاعة ، والخمول ذكاء ونباهة ، والكذب صدقًا ، والاستكانة إباء ، والانحطاط رفعة ، والبغض محبة ، ونكث العهد وفاء ، والأثرة تضحية لصالح المجموع ؟
تلك هي فكرة العودة إلى الينابيع الصافية ، والموارد الشافية ، والأص


