المسلمون عندما يغيب العقل ( 2 )
للاستاذ عبد الكريم الخطيب
-3-
واذ ننظر اليوم في المجتمع الإسلامى كله، نجد أنماطا متعددة من الثقافات المختلفة، فهناك العوام، وهم أكثر المسلمين عددا، ثم هناك من أطلق عليهم ” المثقفون ” وهم الذين تخرجوا في الجامعات العربية والإسلامية، وجامعات أوربا وأمريكا، وهؤلاء يمكن أن يطلق عليهم ” علمانيون ” بمعنى أنهم طبقة ارستقراطية التفكير، ومفهوم هذا عندهم أنهم ” عقلانيون ” لا شأن لهم بالدين، وما فيه من غيبيات لا تخضع لمدركات العقل.. ثم انه من كان له نظر في التدين، أحس أنه اذا كان عليه أن يتعرف إلى حقائقه أن يطرح عقله وراءه، قبل أن يدخل إلى حرم الدين. ثم هناك طائفة أخرى. وهى جماعات رجال الدين، وما تضم جماعاتهم من علماء في الدين، ومتصوفة، وأرباب طرق وغيرهم.. وهؤلاء جميعا يمثلون قطاعا كبيرا من المجتمع، واليهم تتجه أنظار العامة في كل ما يتصل بالدين..
وعلى هذا يمكن أن نقول أن مجتمعنا الإسلامى يحكمه طرفان، طرف يمثل المثقفين العقلانين، وطرف يمثل رجال الدين، وأصحاب الطرق المتصوفة، وما تحت سلطانهم من العوام..
وليس بين هذين الطرفين تلاق في وجهات النظر، وفي مناحي التفكير، التى توجه الانسان الى الطريق الذى يأخذه في الحياة.
فالمثقفون العقلانيون، يعيشون في عزلة باردة مع عقولهم التى لم تشتعل بحرارة العاطفة الدينية، وهم لهذا يشعرون بأنهم محرومون من تلك العاطفة، فإذا صادفهم من يفتح لهم الطريق الى الدين كانوا بين أمرين: إما أن يتلقوا كل ما يسمعون دون مراجعة أو اعتراض، باعتبار أنهم انما يتلقون ذلك من أهل الذكر، الذين هم على صلة بالله، فاذا بدا لأحد منهم أن يسأل أو يعترض، ألقوا إليه بهذه القولة العمياء: ” من اعترض انطرد “.. وبهذا يدخل هذا المثقف إلى ساحة الدين بلا عقل !..
وإما أن يتلقى المثقف من هؤلاء المثقفين ما يتلقى من هؤلاء الدينيين ممسكا بعقله، حريصا على ألا يقبل شيئا من أمور دينه، دون أن يكون لعقله مشاركة فيه، وهنا يجد الطريق إلى الدين مسدودا دونه، فيعطى الدين ظهره، ويقبل- كارها- أن يعيش مع عقله، في حيرة وقلق، وجزع عاطفى يحرق الكبد !.
وهكذا، لا نجد للدين مكانا الا في بيوت العبادة، نجده مظهرا أكثر منه مخبرا.. أما خارج بيوت العبادة، فلا يعرف المؤمن من الملحد، ولا من كان من حزب الله أو حزب الشيطان، اذ لم يكن للمتدينين أثر ظاهر لدينهم فيما يأتون وما يدعون من شئون الحياة.. إنهم إذا خرجوا من المساجد، ودخلوا في غمار الحياة، صافحوا الدين على باب المسجد، وتركوه هناك ينتظرهم إلى أن يعودوا للصلاة، وحتى لكأنهم بهذا يخافون على الدين أن يخالط الحياة معهم، فيدخل عليه ضيم مما يلابسون من شئون الحياة، ولهذا فانهم لا يتحرجون من أن يخوضوا في الأوحال، ما دام الدين هناك بعيدا عنهم قابعا في المسجد !.
فالمتدينون يعيشون منقسمين على شخصياتهم. شخصية في مقام العبادة والذكر، وشخصية خارج مقام العبادة في الحياة.. تلك حال أشبه بحال المنافقين، يلبسون أكثر من وجه 00
والذى يلبس وجها واحدا- أيا كان هذا الوجه من السوء والنكر أحسن ممن يلبس وجهين أو أكثر.. لان الاول يعرف ذاته، على حين أن الآخر لا يدرى من هو !!.
– 4-
وقد صور ” الكواكبى “- رحمه الله- هذه الحال أبرع تصوير في كتابه ” أم القرى ” اذ يقول على لسان المندوب المدنى، الذى يمثل أهل المدينة في المؤتمر الإسلامى الذى تصوره في خياله، وجعل مقره ” أم القرى ” ( مكة المكرمة ) ( عقد هذا المؤتمر- كما يقول الكواكبى- في مكة المكرمة يوم 15 من ذى القعدة سنة 1316 هـ ) يقول الكواكبى:
” إن السبب- فيما أصاب الأمة الإسلامية من ضعف، وما سرى فيها من فساد وانحلال- هو تدليس رجال الدين وغلاة المتصوفين الذين لونوا الدين بلون سيئ، فأضاعوا وأضاعوا أهله.. ذلك أن العلماء العاملين أهل تجلة واحترام، قلما حسدهم من لا يستحق هذه المنزلة، سلكوا (أى هؤلاء الحاسدون ) مسلك الزاهدين.. ومن العادة أن يلجأ ضعيف المقدرة إلى التصوف، كما يلجأ فاقد المجد إلى الكبر، وقليل المال إلى التظاهر بزينة اللباس والأثاث.. فأفسد هؤلاء- المتصوفة- الدين، بما أدخلوا فيه ما ليس منه، كالعلم اللدنى، وترتيب المقامات، ووراثة السر، والرهبنة، والتظاهر بالعفة، والتبرك بالآثار، والكرامة على الله، والتصرف في القدر، فسحروا الجهلاء، واختلبوا قلوب الضعفاء، والنساء يبذرون هذه البذور الضارة في أبنائهن وبناتهن، فماتت النفوس وخرفت العقول !! “.
ثم يقول ( الكواكبى ) على لسان المندوب الرومى ( يقصد اليونان، وقبرص، وغيرهما من البلاد الأوربية التى كانت خاضعة يومئذ للخليفة العثمانى، وداخلة في دار الإسلام): ” إن داءنا الدفين، دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين، والجهال المتعممين، وبلغ أمرهم في البلاد العثمانية أن صارت الالقاب العلمية منحة رسمية،تعط


