التثبت من الأخبار
وعدم الجرى وراء الشائعات
بقلم : جمال محمد إسماعيل
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده – وبعد :
قال تعالي: ” وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ” النساء/ 83
قال ابن كثير رحمه الله: ” إنكار علي من يبادر إلي الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها وقد لا يكون لها صحة “( 1)
وقال تعالي:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)الحجرات/6 وفي قراءة عامة قراء أهل المدينة. (… فتثبتوا)(2)
قلت: وذكر الفاسق في الآية ليس مقصورا لذاته، إذ نزلت الآية في صحابي جليل رضي الله عنه وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط(3) وإنما المقصود الأساسي في الآية الكريمة هو التثبت والتبين.
وروي مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” كفي بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع “(4)
وقال الإمام مالك: ” اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع. ولا يكون إماما أبدا، وهو يحدث بكل ما سمع “.(5)
والله سبحانه اللطيف الخبير يضع لهذه الأمة هذه القاعدة التشريعية لصيانة المجتمع من التمزق وصيانته من التفرق، وصيانته من أن تشتعل فيه نار الفتنة فلا تطفأ أبدا.
وحقا فإن الشائعات من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات والأشخاص، فكم أراقت من دماء وأزهقت من أرواح وكم هزمت من جيوش جرارة وأخرت من سير أقوام.
والناس إزاء الشائعات التي تثار حول شخص أو هيئة ما ينقمسون حسب تعاملهم مع هذه الشائعات إلي ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: من يقبل هذه الشائعات علي علاتها ويكتمها في نفسه ويرتب عليها أمورا ومواقف من غير تثبت ولا تبين.
الصنف الثاني: من يقوم بالتناجي بها بعيدا عن صاحب الشأن فيها ومعلوم ما في ذلك من الوقوع في الغيبة وإذكاء الشائعة وانتشارها.
الصنف الثالث: من يسارع إلي التثبت من الشائعة ممن أثيرت حوله مباشرة ولا يذهب مع الظنون والوساوس النفسية أو المناجاة التي تحزن المسلم.
كيف يواجه المسلم الإشاعات؟
لقد سد القرآن الكريم علي المؤمنين طريق نشر الشائعات، وعلمهم كيف يقفون في وجه الكذب والكذابين وذلك مما يلي:
1- طلب الدليل الباطني، وهو حسن ظن المؤمن بأخيه. (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ )النور/12
فإذا بلغك عن أخيك ما يتهمه فقل ” سبحانك هذا بهتان عظيم ” كان لأخي أن يقول هذا، أو يفعل ذاك.
2- طلب الدليل الحسي والبرهان الواقعي. (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) النور/13
3- أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره حتى تموت الإشاعة وتدفن في صدور مروجيها. (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ )النور/16
4- أن يرد الأمر إلي أولي الأمر ولا يشيعه بين الناس وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة. (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم )النساء/83
5- عدم سماع ما يقوله المنافقون الحاقدون والكذابون وأصحاب القلوب المريضة وعدم الرضي بذلك.
وهكذا يربي القرآن أهله ولكن للأسف تري كثيرا من المسلمين لا يلتزمون بهذه التربية، فما أن يذيع منافق حاسد خبرا ضد أحد من المسلمين حتي يشيع ذلك الخبر في المجتمع وتلوكه الألسنة من غير تثبت ولا ترو، وفي ذلك يقول ربنا جل وعلا: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ )النور/15
وتأمل التعبير القرآني ” إذ تلقونه بألسنتكم ” مع أن الأصل في الكلام أن يتلقي بالآذان لا بالألسنة، ولكن الله تعالي يذكر لنا سرعة نقل الحديث وانتشاره بين الناس، وكأن الكلمة تخرج من لسان إلي لسان، من غير أن تمر بالأذن الموصلة إلي القلب الذي يفكر فيما سمع، ثم يفكر في جواز نقله أو عدم جوازه.
فتدبر فيما حدث في عهد النبوة وعهد الخلفاء الراشدين وخذ العظة والعبرة.
ما وقع في عهد النبوة:
1- حادثة الإفك التي هزت بيت النبوة وكادت أن تؤول إلي ما لا يحمد عقباه لولا فض


