باب السنة
بقلم الرئيس العام / محمد صفوت نور الدين
الاعتكاف
الاعتكاف لغة : لزوم الشيء ، وحبس النفس عليه ، أو هو : حبس النفس عن تصرفات مخصوصة يؤديها عادة ، ويطلق على الحبس على الخير كما في قوله تعالى : ( وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) [ الحج : 25] ، كما يطلق على الحبس على الشر ، في مثل قوله تعالى : ( مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ) [ الأنبياء : 52] ، وقوله تعالى : ( يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ ) [ الأعراف : 138] ، وقوله سبحانه : ( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ) [ طه : 97] .
والاعتكاف شرعًا : الإقامة في المسجد على صفة مخصوصة بنية التعبد لله رب العالمين ، ولا يكون الاعتكاف شرعًا إلا في المساجد ، إذ لا يسمى من اعتكف في غيرها معتكفًا شرعًا .
والاعتكاف فيه تسليم النفس لعبادة الله تعالى بالكلية ، وإبعادها عن الاشتغال بالدنيا الأشغال المانعة من التقرب لله رب العالمين .
والاعتكاف مشروع ، ولا يجب إلا على من نذره ، ودليل مشروعيته من القرآن : ( أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) [ البقرة : 125] .
والاعتكاف فاضل في كل وقت وهو في رمضان ، لا سيما في العشر الأواخر منه أفضل وآكد ؛ لقوله تعالى : ( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) [ البقرة : 187] ، وجاءت في آيات الصيام .
ولحديث عائشة ، رضي الله عنها ، وابن عمر ، رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان .
وفي حديث عائشة ، رضي الله عنها : حتى توفاه الله ، ثم اعتكف أزواجه من بعده .
قال النووي : إن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه إنما اعتكفوا في المسجد مع المشقة في ملازمته ، فلو جاز في البيت لفعلوه ولو مرة ، لا سيما النساء ؛ لأن حاجتهن إلى البيوت أكثر .
واتفق العلماء على شرط المسجد للاعتكاف ، ولا حد لأكثره ، واختلفوا في أقله ، فهل يشترط العشرة أو يجوز يوم فأكثر ؟ وهل يجوز أقل من يوم ؟ والراجح جوازه .
ودليل جوازه ما أخرجه الشيخان ، من حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما ، أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم : قال كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد ؟ قال : ( فأوف بنذرك ) . فهذا دليل على جواز اعتكاف الليلة ، وهو الذي عليه الجمهور .
وقد داوم النبي صلى الله عليه وسلم عليه ، واعتكف بعض أزواجه معه وبعده ، فاستدل من أهل العلم من استدل بذلك على أنه سنة ، بل إنه سنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان التماسًا لليلة القدر ، وقد صح عن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعله ، وإن كان الأكثر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوه ، ومن فعلوه لم يلتزموه ، فذلك كافٍ في نفي فرضيته على المسلمين .
هذا ، ولم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف إلا في حديث الشيخان ؛ عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواسط من رمضان ، فاعتكف عامًا ، حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال : ( من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر … ) .
والشاهد أنه أمر من اعتكف معه أن يعتكف ، ولا أعلم نصًا من قرآن ولا سنة جاء فيه الأمر بالاعتكاف إلا هذا ، والأمر فيه خاص بمن اعتكف معه العشر الأوسط وليس عامًا بالناس ، فحكم الاعتكاف هو الندب إلا أن ينذره المسلم ، فيصبح واجبًا عليه بالنذر ، ومما يدل على أن فعله مندوب حديث الموطأ : ( ومن اعتكف سنة – أي في رمضان – فليعتكف العشر الأواخر ) .
وفي الحديث : من أراد أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر ، ولو كان واجبًا لم يتعلق الأمر بالإرادة .
ويصح اعتكاف المرأة باتفاق الفقهاء إذا كانت مسلمة مميزة ، عاقلة ، طاهرة من كل حيض أو نفاس أو جنابة ، ولا يكون إلا بإذن زوجها – إن كانت ذات زوج – ويستحب أن تستتر بخباء ، ولا يكون خباؤها في مكان يصلي فيه الرجال .
بل ولا بأس بالخباء للرجال في الاعتكاف أيضًا ، وذلك لفعله صلى الله عليه وسلم ، ولأنه أستر للعبادة ، وأدعى إلى الإخلاص ، ولذا نعلم أن الخباء لستر العبادات قبل ستر العورات .
واتفق الفقهاء على أن المساجد الثلاثة أفضل من غيرها في الاعتكاف ، وأن أفضلها المسجد الحرام ، ثم المسجد النبوي ، ثم المسجد الأقصى ، ويصح الاعتكاف في سائر المساجد ، والمسجد الجامع أولى من المسجد الذي لا يجمع فيه . فإن نذر الاعتكاف في مسجد لا يجمع فيه أيامًا غير الجمعة صح عند بعض أهل العلم ، فإن كان فيها يوم جمعة ألزمه الشافعية أن يشترط في اعتكافه الخروج لصلاة الجمعة في المسجد الجامع .
وليس للاعتكا


