باب الأدب
الإيمان ومزاياه … – الحلقة السادسة – السعادة –
بقلم د : السيد عبد الحليم محمد
السعادة هي الغاية التي ينشدها كل البشر ، والسؤال الذي حير الناس من قديم : هو أين السعادة ؟ لقد طلبها الأكثر في غير موضعها ، فحسبوا السعادة في الغنى ، وفي رخاء العيش ، لكن البلاد التي ارتفع فيها مستوى المعيشة ، لا تزال تشكو من تعاسة الحياة ، فكثرة المال ليست هي السعادة ، بل ربما كانت كثرة المال أحيانًا وبالاً على صاحبها في الدنيا قبل الآخرة ، لذا قال الله في شأن المنافقين : ( فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [ التوبة : 55] .
والعذاب هنا هو المشقة والنصب والذنب والألم والهم والسقم ، فهو عذاب دنيوي حاضر ، على نحو ما ورد في الحديث : ( السفر قطعة من العذاب ) . [ صحيح ابن ماجه (2330) ] .
وهذا ما نشاهده بأعيننا في كل من جعل المال والدنيا أكبر همه .
ومن أبلغ العذاب في الدنيا – كما قال ابن القيم في ( إغاثة اللهفان ) – : تشتيت الشمل ، وتفريق القلب ، وكون الفقر نصب عينيه لا يفارقه ، ومُحب الدنيا لا ينفك عن ثلاث : همٌ لازم ، وتعبٌ دائم ، وحسرةٌ لا تنقضي ، وذلك أن محبها لا ينال منها شيئًا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه ، كما في الحديث : ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا ) . [ أخرجه البخاري : ( 6436)] .
ولقد طلب السعادة كثير من الناس في الأولاد ، ولكن كم من أولاد جروا على آبائهم ، وجزوهم بالعقوق والكفران بدل البر والإحسان ، فمن الآباء من يقول لولده آسفًا آسيًا :
غذوتك مولودًا وعلتك يافعًا
تُعلّ بما أسدي إليك وتنهل
إذا ليلة نابتك بالشجو لم أبت
لبلواك إلا ساهرًا أتململ
فلما بغلت السن والغاية التي
إليها مدى ما كنت فيك أؤُمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
كأنك أنت المنعم المتفضل
ثم ما حيلة الذين حرموا من الأولاد ؟ أحكم عليهم بالشقاء المؤبد ، والتعاسة الدائمة ؟ هل العلم التجريبي الذي قرب للإنسان البعيد ، وذلل له الصعب أن يُحقق له السعادة ؟
الحقيقة أن المعرفة لا تبقي سببًا للسعادة ، بل كثيرًا ما تكون داعية قلق ، واضطراب .
فعلمنا وإن اتسع المدى ضيق إلى مدى الوجود الذي لا نهاية له ، فالسعادة إذن ليست في وفرة المال ، ولا الجاه ، ولا الولد ، ولا العلم المادي ، إنما هي صفاء نفس ، وطمأنينة قلب ، وانشراح صدر ، فسعادتي في إيماني ، وإيماني في قلبي ، وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربي .
هذه هي السعادة الحقة ، التي لا يملك بشر أن يعطيها ، ولا يملك أن ينزعها ممن أويتها .
ولا يُجحد أن للجانب المادي مكانًا في تحقيق السعادة ، كيف ؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة ، والمسكن الصالح ، والمركب الصالح ) . رواه أحمد بإسناد صحيح .
فحسب الإنسان أن يسلم من المنغصات المادية التي يضيق بها الصدر ، من مثل : المرأة السوء ، والمسكن السوء ، والمركب السوء ، وأن يمنح الأمن والعافية ، ويتيسر له القوت في غير حرج ولا إعنات ، وما أصدق وأروع الحديث النبوي : ( من أصبح آمنًا في سربه ، معافى في بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) . رواه البخاري في (الأدب المفرد ) والترمذي ، وقال : حسن غريب ، وابن ماجه .
لقد فجر الإيمان في قلب الإنسان ينابيع للسعادة ، تلك هي ينابيع السكينة ، والأمن ، والأمل ، والرضا ، والحب .
فالسكنية : الينبوع الأول للسعادة ، ومصدرها : الإيمان بالله واليوم الآخر .
أسباب السكينة لدى المؤمن :
1- إن أول أسباب السكينة لدى المؤمن أنه قد هُدِيَ إلى فطرته التي فطره الله عليها ، يملؤه الإيمان بالله جل وعلا ، وستظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر والجوع والظمأ ، حتى تجد الإيمان الصحيح ، فالإنسان خلق جمع بين قبضة من طين ، ونفخة من روح الله ، فمن أعطى الجزء الطيني فيه غذاءه وريه مما أنبتت الأرض ، ولم يعط الجانب الروحي غذاءه من الإيمان ومعرفة الله ، فقد بخس الفطرة الإنسانية حقها ، وحرمها مما به حياتها وقوامها .
قال ابن القيم رحمه الله : ( في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله .
وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله ، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته ، وصدق معاملته ، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه ، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه ، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ، ودوام ذكره ، وصدق الإخلاص له ، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدًا ) [(مدارج السالكين )] .
إنها الفطرة التي لم يملك مشركوا العرب في جاهليتهم أن ينكروها مكابرة وعنادًا : (


