باب الأدب
الإيمان ومزاياه – الحلقة الخامسة –
بقلم د / السيد عبد الحليم محمد
الإنسان مخلوق كرمه الله ، خلقه ربه في أحسن تقويم ، صور آدم فأحسن صورته ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وميزه بالعلم ، فالإنسان محور النشاط في الأرض ، سخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا ، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة ، فكل ما في الكون له ولخدمته ، أما هو فجعله تعالى لنفسه .
إن الإنسان شيء ضئيل بالنسبة لسعة الكون من حيث حجمه ، وحياة جسمه ، ولكنه من حيث روحه وكيانه المعنوي شيء كبير ، وهل الإنسان في الحقيقة إلا تلك الروح ، وذلك الكيان المعنوي ؟
حقًّا ، إن الإنسان من حيث عمره القصير على الأرض لحظة في عمر الأزمنة البعيدة الضاربة في أغوار القدم – إن صح ما قالوا – ولكن المؤمنين يؤمنون أن الموت ليس نهاية الإنسان ، إنه محطة انتقال إلى الأبد الذي لا نهاية له ، إلى دار الخلود ، إلى حيث يقال للمؤمنين : ( سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) [ الزمر : 73] .
وإذا كانت هذه كرامة الإنسان في نظر الدين عامة ، فله في القرآن خاصة أعظم مكانة .
تحدث القرآن عن الإنسان في عشرات ، بل مئات من آياته ، وحسبنا أن أول فوج من آيات الوحي الإلهي نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، وكانت خمس آيات ، لم تغفل شأن الإنسان وعلاقته بربه ، علاقة الخلق والتكريم ، وعلاقة الهداية والتعليم ، واختارت الآيات لفظ (الرب) لما يشعر به من التربية والرعاية والترقية في مدارج الكمال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) [ العلق : 1- 5] .
وفي آيات كثيرة من سور شتى ، بين القرآن قرب الإنسان من الله ، ذلك القرب القريب الذي حطم أسطورة الوسطاء والسماسرة المرتزقين بالأديان ، الذين جعلوا من أنفسهم (حُجابًا) على أبواب رحمة الله الواسعة ، والله يعلم إنهم لكاذبون : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان ) [ البقرة : 186] ، ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) [ البقرة : 115] ، ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد ) [ ق : 16] ، ( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) [ المجادلة : 7] .
ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في أحاديثه عن ربه : ( أنا عند حسن ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، وإن تقرب إليَّ شبرًا ، تقربت إليه ذراعًا ، وإن تقرب إليَّ ذراعًا ، تقرب إليه باعًا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) . رواه البخاري .
وقد أراد الله أن يكرم آدم ، فأمر الملائكة أن تسجد له : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72)فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(73)إِلَّا إِبْلِيسَ ) [ ص : 71 – 74] .
ولقد عصى إبليس أمر ربه فأبى السجود لهذا الإنسان ، ودفعه الحسد والغرور أن أبى واستكبر وكان من الكافرين ، واتخذ من الإنسان موقف العداء ، فماذا كانت عاقبة هذا العدو المبين ؟ كانت كما ذكر القرآن قال : ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(77)وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) [ ص : 77 ، 78] .
أما مركز الإنسان في هذا الكون المادي العريض فهو مركز السيد الذي سخر كل ما في هذا العالم لنفعه ، ولإصلاح أمره ، وكأن كل شيء في هذا الكون قد (نسج) من أجله ، و ( فصل ) على ( قده ) تفصيلاً : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ(32)وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(33)وَءَاتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) [ إبراهيم : 32 – 34] ، ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَث


