باب التفسير
الإسلام ومستقبل الأجيال
الشيخ عبد العظيم بدوي
( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) (1) .
شغل المستقبل بال كثير من الناس أفرادًا وجماعات ، فعقدوا الندوات والمؤتمرات لبحث سبل تأمين المستقبل ، واختلفت الآراء ، فرأى يرى ضرورة تحديد النسل واكتفاء الأسرة بولد أو لدين ، ورأى يرى ضرورة محاربة الزواج المبكر ، ورأى يرى ضرورة التأمين على الحياة كرها ، ورأى يرى ضرورة رصد رصيد كبير في البنوك وآراء كثيرة متعددة وضعت لحلّ مشكلة الغد وتأمين مستقبل الأجيال ، وهذه الحلول كلها لا تسمن ولا تغنى من جوع .
فما هو الحل في الإسلام ؟
وكيف أمَّن الإسلام مستقبل الأجيال ؟
إن الحل في الإسلام لهذه المشكلة قد نصّ عليه في آية واحدة ذات كلمات معدودة في سورة النساء ، وهي قوله تعالى : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) (1) .
قال ابن جرير الطبري – رحمه الله – : اختلف أهل التأويل في هذه الآية فقال بعضهم : معنى ذلك : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) يكفيهم الله أمر ذريتهم بعدهم ، فعن الشيباني قال : كنا بالقسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محيريز وابن الديلمي وهانئ بن كلثوم ، فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان . قال : فضقت ذرعًا بما سمعت .
قال فقلت لابن الديلمي : يا أبا بشر : بودّي أنه لا يولد لي ولد أبدًا . قال : فضرب بيده على منكبي وقال : يا ابن أخي لا تفعل ، فإنه ليست من نسمة يكتب الله أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبي . قال : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه ، وإن تركت ولدك من بعدك حفظهم الله فيك ؟ قال : قلت : بلى . قال : فتلا عند ذلك هذه الآية : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) (2) .
إذن هذه المشكلة مشكلة الخوف من المستقبل ليست بنت عصرنا إنما هي مشكلة قديمة . فقبل الإسلام كانت العرب تقتل الأولاد خشية الفقر . وهذا رجل مسلم يتمنى أن لا يولد له خوفًا من أن تدرك أولاده الفترة التي تكون في آخر الزمان ، فينصحه ذلك الشيخ أن لا يفعل ، فإنه ما من نسمة يكتب الله لها أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبي ، وقد ورد هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي جارية وهي خادمنا وسانيتنا في النخل ، وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل . فقال صلى الله عليه وسلم : (اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها ) . فلبث الرجل ما شاء الله ثم أتاه فقال : إن الجارية قد حبلت فقال : (قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها ) (3) .
إذن العزل ليس حلاً ، والتنظيم ليس حلاً ، والتحديد ليس حلاً ، فما الحلّ ؟ قال الشيخ للشيباني : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه ، وإن تركت ولدك من بعدك حفظهم الله فيك ؟ قال : بلى فتلا عليه هذه الآية : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ …. ) . فهذا هو الحل : التقوى ، والقول السديد .
قال أبو حيان : انظر إلى حُسن ترتيب هذه الأوامر ، حيث بدأ أولاً بالخشية التي محلها القلب ، وهي الاحتراز من الشيء بمقتضى العلم ، وهي الحاملة على التقوى ثم أمر بالتقوى ثانيًا ، وهي متسببة عن الخشية ، إذا هي جعل المرء نفسه في وقاية مما يخشاه ، ثم أمر بالقول السديد وهو ما يظهر من الفعل الناشئ عن التقوى الناشئة عن الخشية ، ولا يراد تخصيص القول السديد فقط بل المعنى على الفعل والقول السديد لسهولة ذلك على الإنسان ، كأنه قيل : أقلّ ما يسلك هو القول السديد (4) .
أما التقوى فهي وصية الله للأولين والآخرين . قال تعالى ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ) (5) . والآيات في الأمر بالتقوى والحث عليها كثيرة .
وإنما أمر الله بالتقوى لأنها سبب الفلاح والنجاح والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة : قال تعالى : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (6) .
وهي : سبب حياة القلوب وتمييزها بين الحق والباطل ، قال تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ) (7) والفرقان : هو العلم والهدى الذي فرّق به صاحبه بين الهدي والضلال ، والحق والباطل ، والحلال والحرام .
وهي سبب الخيرا


