من روائع الماضي
الإسلام بين السلـف والخلـف
لفضيلة الشيخ / محمد المدني ( رحمه اللَّه )
يرجع الإسلام في أصل دعوته وتفاصيل شريعته إلى قسمين :
1- العقائد وما يلحق بها من أنواع العبادات .
2- الأحكام العملية التي ينظم بها شئون الحياة ، وللعلماء في بحث هذين القسمين طريقتان :
1- طريقة السلف من العلماء الأولين الذين تلقوا دعوة الإسلام من معينها الصافي ، لم تشبها الشوائب ، ولم تتحكم فيها الأهواء ولا المذاهب ؛ ولم تفرقها الفرق ولا الطوائف .
2- طريقة المتأخرين الذين خلفوا من بعدهم ، بعد أن دخل في الإسلام ما ليس منه ؛ وطغت على عقول المسلمين فلسفات أجنبية ، وأفكار طارئة لا عهد لهم بها من قبل ، ونريد أن ننظر في هاتين الطريقتين ؛ لنعرف أيتهما هي الطريقة القويمة التي يصلح بها شأن المسلمين في حاضرهم .
1- طريقة السلف :
تمتاز هذه الطريقة بالبساطة المطلقة في العقائد وما يتصل بها ، فهي لا تعرف التعقيد ، ولا تتكلف التأويل ، ولا تنزل على أساليب الفلسفة الملتوية ولا المنطق المركب ، ولا تتصيد الأخبار والروايات لتضخيم العقائد أو تركيب العبادات .
إيمان باللَّه لا يعدله إيمان ، مصدره الاقتناع النفسي ؛ والاطمئنان القلبي ، الناشئان من النظر في ملكوت السماوات والأرض ، والتأمل في بدائع هذا الكون ، وإدراك أسراره ، والإذعان لقدرة خالقه ، وإيمان برسوله الذي أيده بوحيه ، وأنزل عليه كتابه يتلى عليهم بكرة وعشيـًّا ، ويهديهم للتي هي أقوم ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ورضـًا فيما وراء ذلك بما يخبرهم به اللَّه أو الصادق الأمين عن عالم الغيب ، لا يكلفون أنفسهم بحثه أو التعمق فيه ، أو الوقوف على تفاصيله ، علمـًا منهم بأن الغيب للَّه لا يظهر على غيبه أحدًا ، وبأن للعقل حدًّا يجب أن ينتهي إليه ، ويقف عنده .
1- كانوا يؤمنون بأن للَّه ملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، ولا يعصون اللَّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ولكنهم لا يكلفون أنفسهم بعد ذلك الوصول إلى حقيقة هؤلاء الملائكة ؛ ولا تعرّف كنههم ، وهل هم أجسام نورانية ، أو أرواح علوية ، أو نحو ذلك ؟!
2- وكانوا يؤمنون بيوم الحساب ، وبأن اللَّه سيخرج للناس كتبـًا فيها أعمالهم ، يلقونها منشورة ، وبأنه سيضع الموازين القسط ليوم القيامة ، فلا تظلم نفس شيئـًا ، ولكنهم لم يكونوا يكلفون أنفسهم ما وراء ذلك من معرفة كنه هذا الكتاب ، ولا أين تكون ساحة هذا الحساب ؛ ولا حقيقة هذه الموازين ، وكيف تقام ، وهل لها كفتان ولسان ، أو هي على شكل ميزان القبان ، وهل هي من حديد أو نحاس ، وهل تجسد الأعمال ثم توزن بها ، أو تكتب في صحف ثم توضع في كفتيها ؟
3- وكانوا يؤمنون باللوح المحفوظ ، ولكنهم لا يكلفون أنفسهم أن يثيروا نقاشـًا أو جدالاً حول هذا اللوح ؛ ليعلموا أنه فوق السماوات السبع أو تحتهن ؛ أو أن مساحته كذا وكذا ، أو أن قلمه كيت وكيت .
4- وكانوا يؤمنون بأن الشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون ؛ لكنهم لا يتطلعون إلى معرفة كنه هذه الحياة ، ولا نوع هذا الرزق .
5- وكانوا يؤمنون بأن الرحمن على العرش استوى ، { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } [ البقرة : 115 ] ، و{ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم } [ الفتح : 10 ] ، و{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] ، ولكنهم لا يشغلون أنفسهم بالبحث في الاستواء ، وكيف كان ، ولا بالسؤال عن اليد ، أو الوجه ، أو تأويل معناهما ؛ ولا يتطلعون إلى معرفة حقيقة هذه المصاحبة وعلى أي حال تكون .
سُئل مالك ، رضي اللَّه عنه ، عن معنى الاستواء المذكور في القرآن فغضب وقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
وسُئل علي ، رضي اللَّه عنه : كيف يُحاسب الناس يوم القيامة ، وهل يكون ذلك دفعة واحدة ؟ فأجاب : يحاسبون كما يُرزقون .
وكان عمر ، رضي اللَّه عنه ، يضرب أمثال هؤلاء بالدرة ويعنفهم ويتعقبهم ، وقد مر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقوم ، فسمعهم يخوضون في القدر ، فغضب حتى احمرت وجنتاه وقال : (( أفبهذا أمرتم ؟ إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال )) .
هذه طريقة السلف الصالح في الإيمان باللَّه وما أخبر به من الغيب ؛ لم يكونوا يكلفون أنفسهم شيئـًا من التفاصيل التي لم يذكرها اللَّه في كتابه ولم ترد عن الصادق الأمين من طريق يعول عليه في إثبات العقائد ؛ لأن العقائد إيمان ويقين لا يغني فيهما الظن : { إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [ يونس : 36 ] .
وقد أدركوا بما لهم من العقول الصافية أن قياس الغائب على الشاهد لا يستقيم ، وأن اللَّه كلفهم بالإيمان بالغيب كما يريده غيبـًا يحتفظ به لنفسه ولا يطلع عليه أحدًا من خلقه : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] ، { وَمَا


