“بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُه” الأنبياء :18
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
بقلم بدوي محمد خير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه
نمضي بتوفيق من الله سبحانه فى الحديث عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وقد تناولنا فى سياق حديثنا عن الأسس التى يجب مراعاتها عند من يتصدون لأداء ذلك التكليف وتكلمنا عن خمسة منها. وفى هذا المقال نتناول الأساس السادس ، وهو الصبر على أداء ذلك التكليف.
لقد سبق أن ذكرنا فى المقال الخامس من هذه السلسلة أن النفوس جبلت على اتباع الهوى والبعد عن طريق الحق – إلا من رحم ربى – لأن الشيطان يتربص بها ليحقق ما توعد به منذ رفض السجود لآدم كما أمره الله. ولقد نشأ تعاون وثيق بين شياطين الأنس وشياطين الجن على محاربة رسالات السماء والصد عن سبيل الله وسيستمر ذلك التعاون إلى قيام الساعة. ومن جراء ذلك يصيب الدعاة عنت شديد بدءا من الصفوة الكرام من رسل الله ومرورا بحملة ميراث الأنبياء ودعوة الحق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وإن بعض الدعاة يغفلون عن هذه الحقيقة فتراهم إما أن يصيبهم القنوط فينصرفوا عن الدعوة، أو أن يدفعهم ذلك العنت إلى استعجال النتائج فتأتى النتائج على عكس ما يرجون ويخرجون عن منهج الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة أملا فى جنى ثمار دعوتهم. فإذا بهذا السلوك يكون وبالا على الدعوة ويعطى الفرصة لأعداء الإسلام فيشوهون وجهه المشرق .ومن البديهات التى يجب أن يضعها الدعاة أما ناظريهم أن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم البشرية وسيبقى إلى قيام الساعة وأن الأعوام لا تساوى شيئا فى عمر هذا الصراع، وتلك طبيعة الحياة الدنيا، فإنها تبقى ما بقيت فيها المتقابلات، صحة وسقم، فرح وحزن، سعادة وشقاء، صيف وشتاء، ليل ونهار، ظلمة ونور، فقر وغنى، قوة وضعف، وهكذا الحق والباطل .
والذى نقوله ليس دعوة إلى اليأس والقنوط ولكنه لفتة إلى أن يكون الدعاة على بصيرة من حقيقة ما يقومون به وأن ما يحدث لهم لا يخرج عن ناموس الكون وطبيعة الحياة الدنيا وطبيعة الصراع الأزلي فيكون العلاج بل قل الوقاية من القنوط أو استعجال النتائج هو الصبر. وما على الداعية إلا أن يدعو قدر طاقته وليكن إيمانه بنصر الله يقينيا “يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)” الصف 8 ،9 .
ولقد صادف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه أهوالا تشيب لها الولدان وما ذاك إلا شبيه بما لقيه إخوانه ممن سبقوه من الرسل الكرام. ولذا فإننا إذا أمعنا النظر فى كتاب ربنا وفى القصص القرآني لوجدنا كيف يسرى الحق سبحانه عنهم ويمسح على تلك الجراح مما جعلهم يستعذبون تلك الأهوال فى سبيل الله ويتسابقون إلى الشهادة. ونجد أن الضعفاء منهم قبل الأقوياء يعضون على دينهم بالنواجذ إزاء صلف وغرور صناديد قريش وزعمائها فنرى الصبر فى أبهى صوره. فهذا ياسر وزوجه سمية يعذبان حتى الموت، وذاك بلال يوقفه سادته ويلقونه عاريا فى الرمضاء، وذلك عبد الله بن مسعود يسمع وجهاء قريش القرآن فيضربونه حتى تسيل دماء وجهه، وليس مع الرسول صلى الله عليه وسلم شئ يقدمه لهم سوى أنه يأمرهم بالصبر. وكلما ازدادت المحن وعظم البلاء ينزل وحى السماء بخبر أحد الرسل السابقين على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى قلوب أصحابه فيكون خير زاد على ذلك العذاب. فهذا نوح عليه السلام أطول الأنبياء عمرا فى الأذى والسخرية والاستهزاء. ألف سنة إلا خمسين عاما من العذاب ولا يجد سوى الاعتصام بالصبر. ” مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ” هود 27 ” قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُون ” الشعراء 111 ” كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ” القمر 9 ” وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ” هود 38 ويستمر نوح عليه السلام فى دعوته طوال قرون عشرة إلا قليلا إلى أن يأتى وحى السماء بذلك النبأ ” وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ ءَامَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ” هود 36 وإزاء ذلك النبأ اليقين الذى يوحى بأنه لا فائدة من قومه بعد ذلك يتوجه إلى ربه بدعائه ” فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ” القمر 10 ” وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ ع


