موضوع العدد – الحلقة الأولى -
آفة العلم : الهوى
بقلم الشيخ / سليمان بن عبد الله الماجد
( القاضي برئاسة مجمع محاكم الإحساء بالمملكة العربية السعودية )
ليس كالهوى أولى بوصف ( المرض الخبيث ) فإذا كانت ( الأورام المستعصية ) وصفت بذلك لكونها تنمو في جسد المصاب دون ظهور أية أعراض ، حتى إذا
تمكنت وصعب علاجها ظهرت علاماتها وأعراضها ؛ فإن الهوى يذهب بصاحبه إلى ما هو أخطر من ذلك ، وهو غفلته من مرضه ، حتى بعد ظهور أعراضه واضحة أمام الخلق في صور أقلها قسماتُ الوجه وفلتاتُ اللسان .
فصاحب هذا الهوى لم يُرَعْ برجفة الموت من حُشاشة خاطرة مؤمنة كانت تجول في صدره كمحتسب تأمره وتنهاه وتحفظه من غيه وترعاه ، خنقت بأبخرة الشهوات وأدخنة الملذات صار القلبُ بعد موت هذه الخاطرة عرصاتٍ موحشةً إلا من نعيق خاطر الفحشاء وهاجس المنكر ، لم يكتف المسكين بموتها حتى آلت به الحال إلى انطماس بصره وعمى بصيرته عن شنائع من القول والفعل يرتكبها بمرأى من الخلق في سكرة الهوى وسَورة الشهوة غير عابئ بتغامز الأعداء الشامتين وإطراقة الخجل المُمِضٍّ من الأصدقاء المشفقين ؛ فقد سرى بصاحبه في فنون ، وأخرجه من دار العقل إلى دائرة الجنون .
( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُون ) [ الجاثية : 23] .
وقال الشاعر الحكيم :
إذا ما رأيت المرء يقتاده الهوى
فقد ثكِلتْه عند ذلك ثواكله
وقد أشمت الأعداء جهلاً بنفسه
وقد وجدتْ فيه مقالاً عواذله
وما يردعُ النفس الحرون عن الهوى
من الناس إلا حازمُ الرأي كاملة
فثماره مرة في الدنيا والآخرة ؛ فما انتشرت أهواء النفوس في أمةٍ من الأمم إلا كانت سببًا لفنائها وذهاب ريحها وقوتها .
· كيف نتقي الهوى ؟
حين ترى أن العقلاء يتفقون على أن إسلام القيادة للهوى هو طريق هلاك الفرد وذهاب الأمة ؛ إلا أن صاحبه في غمرته يحجب عن الحذر من أسبابه ومعرفة أعراضه وخوف عواقبه ؛ فيبدو لنفسه أنه من أبعد الناس عن الهوى ، وتصبح قضيةُ التجرد من سلطانه دعوى كل إنسان وشعار كل أحد أدى ذلك إلى فرح كل ذي رأي برأيه ، والإعراض كلية عن المخالفين ؛ فينسبهم إلى الخطأ إن لم يرمهم بدائه ؛ داء الهوى .
وليس ثمت عاقل يرضى أن يكون بمكان هذا المدعى ، ولكنه يسأل بلهفة ، ويبحث بلوعة عن وسائل تقيه شر هذا المرض ، ويحذر منه إن أصيب به ليسرع العلاج .
وإنما تكون محاربته والوقاية من شره بتحقيق مقاماتٍ ستْ :
· الأول : معرفة خطر الهوى في الكتاب والسنة .
· الثاني : معرفة حقيقة الهوى .
· الثالث : معرفة طبيعة النفس وحاجتها إلى السلامة .
· الرابع : معرفة مظان الخطر .
· الخامس : معرفة العلامات .
· السادس : الاستجابة للنذر والمبادرة إلى العلاج .
وهذا هو تفصيل مقامات محاربة الهوى :
· الأول : معرفة خطر الهوى في الكتاب والسنة :
وقد جاءت في ذلك نصوص كثيرة منها :
قول الله تعالى : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُون ) [ الجاثية : 23] ، وقوله تعالى : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ) [ القصص : 50] ؛ أي لا أحد أضل منه ، وقول الله تعالى : ( يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) [ ص : 26] ؛ فقد وعظ الله نبيه داود ، عليه السلام ، بالحكم بالحق ، والحذر من اتباع الهوى ، وقول الله تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37)وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(38)فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى(39)وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40)
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) [ النازعات : 37 0 41] ، وقول الله تعالى : ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ) [ المؤمنون : 71] ، وقول الله تعالى : ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) [ محمد : 14] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( … وثلاث مهلكات : هوى متبع ، وشح مُطاع ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ) .
· الثاني : معرفة حقيقة ال


