وشرع الله الحج …
للأستاذ أحمد جمال العمري
ماجستير في الآداب
يقول الله جل ثناؤه في كتابه الكريم : (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) (من سورة آل عمران الآية 97).
ويقول مخاطبًا إبراهيم عليه السلام : (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) [سورة الحج: 27].
في شهر ذي الحجة من كل عام ، يجتمع المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها ، في مؤتمر إسلامي كبير ، يجتمعون في مكان مقدس هو ينبوع الهداية ، ومشرق النور ، ومبعث الضياء والسراج الوهاج ، يفدون إليه من كل صوب وحدب لا فرق بين مصري وهندي ، وشامي ويمني ، وتركي وحبشي ، يفدون إلى البيت الحرام في مكة المكرمة ، ويقفون في صعيد واحد ، يجمعهم هدف واحد ، ويربط بين قلوبهم أمل واحد هو: التوبة والعفو والمغفرة ، متجردين من الدنيا ومظاهرها ، لابسين اللفائف البيضاء التي تشبه أكفان الموتى ، إشارة منهم إلى أنهم قد تركوا الدنيا وما فيها من وراء ظهرهم ، زاهدين في كل ما يغري ، متضرعين إلى الله تسبق قلوبهم حناجرهم ، يناجون ربهم بنداء واحد ، في صوت واحد: (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
لقد جمع الواحد القهار بين قلوبهم وأجسادهم في موقف مشهود ، في مكان خالد على الزمان ، جمع بينهم في صعيد واحد مع اختلاف ألسنتهم وتباين بلادهم ، وألف بين قلوبهم على تفارق عاداتهم وتفاوت ثقافتهم ، فظهروا متحدين في العقيدة والإيمان ، متحدين في الملبس البسيط ، البعيد عن التكلف والزخرف ، دعواهم (الله أكبر ، الله أكبر) يناجون ربهم تائبين مستغفرين .
لقد شاء العلي القدير أن يكون هذا الجمع الغفير رمزًا للوحدة ، ودليلا على التوحيد ووسيلة إلى الإيمان ، وتحقيقا للمساواة بين عباده المسلمين الطائعين الصالحين ، فلا فرق بين أمير وغير أمير ، أو غني وفقير .. الجميع يجمعهم صدق الإيمان ووحدة العقيدة ، وهذا يجعلهم أشد تعاونًا ، وأكثر تآلفًا ، وأقوى اتحادا ، وأنقى سريرة … الجميع يربطهم حبل الله المتين .. ودعوة التوحيد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه .. الجميع .. لا شاغل لهم إلا التوبة واستلهام الرحمات ، لا يفكرون في متاع الدنيا ، ولا يتذكرون إلا الأيام العظيمة ، تلك التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاد فيها هذه الأماكن ، داعيا الله أن يثبت أقدامه ، وينصر قومه ويقويه على حمل الأمانة وتبليغ الرسالة .
إن اجتماع المسلمين في هذا المؤتمر الإسلامي الكبير له هدف أسمى من كل هدف وغاية أرفع من كل غاية .
إن اجتماع المسلمين في هذه الأماكن الطاهرة ، وهم أمم مختلفة – شرقية وغربية ، جنوبية وشمالية – فرصة سانحة للتعرف والتعارف ، ونقل الأخبار والعادات التي تجعل من المسلمين في أقطار الأرض أمة قوية متينة البناء ، قوية بدينها وإيمانها ، يقول العزيز الحكيم : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) [الحجرات آية 13]، وحدة دينية أقوى من أي وحدة ، وحدة في حب الله ، وطاعة الله ، وعبادة الله ، والتمسك بدين الله وتعاليم رسول الله .. وحدة بين القلوب قبل أن تكون وحدة بين الشعوب .. وحدة في الغاية والهدف ، فلا إله إلا الله وحده.
لقد كان العرب قديما في تناحر وتفاخر يجتمعون لا لتوحيد قلوبهم ، ولا للتآلف ، وإنما كانوا يجتمعون للتفاخر بالأنساب والأحساب ، وكان تفاخرهم مدعاة إلى التقاطع والتنابذ ثم التصارع ، إلى أن جاء الإسلام ، فحارب التفاخر ؛ لأنه يهدم الوحدة ويفرق الكلمة فندد الإسلام بهذه العادات المذمومة وشرع ما هو أجدى نفعا … فكان الحج . وشاءت حكمته جل شأنه أن تكون الدعوة إلى الحج ركنًا من أركان الدين ، وشاءت إرادته جل وعلا أن يكون الحج للالتقاء والتعارف لا للتفاخر والتصارع ، وجعل اجتماع المسملين مظهرا من مظاهر الوحدة والتوحيد ، فوحد ثيابهم ، ووحد هتافهم ، ووحد ركوعهم وسجودهم ، ووحد وقفتهم في عرفات … فكانت إرادته أعلى الإرادات ، ومشيئته فوق كل شيء .
ثم إن العلي القدير حين شرع الحج وفرضه ، جعله نوعا من السلوك ، ولونًا من ألوان التدريب العملي على مجاهدة النفس في سبيل الوصول إلى المثل العليا ، والاندماج في حياة روحية خالصة تمتلئ فيها القلوب بحب الله ، كما تنطلق الحناجر هاتفة بذكره وتوحيده وتنزيهه .
وشاءت حكمة الحكيم الخبير أن يكون الحج توحيدا لغاية المسلمين ، وتوجيها لحياتهم بما يفيد بعضهم البعض ، وتدريبا للنفس البشرية على العبادة الحقة والطاعة الصادقة .
وهل هناك أكبر وأعظم وأسمى من الغاية التي يترك المرء في سبيلها ماله وعياله وأهله، من أجل الحج إلى بيت الله الحرام ، ليؤدي مناسك دينية فرضها