هيا نبني الإنسان
بقلم علي عيد
لقد تعود جيلنا أن تخرج عليه شعارات براقة، تجتذب اهتماماته، وتستهوي فضوله ووجداناته، ولكي تقوم بهذا الدور في حياته تكرس لها الإمكانات الإعلامية، وتسخر لها البرامج والندوات، حتى تحيط بالناس من كل جانب، وإذا تقادم بها العهد وانصرف عنها الناس أقبلت شعارات أخر تأخذ مكانها فترة من الزمن ثم تمضي، وكل في فلك الفضاء يسبح..!
ومن ذلك شعار شغل الأذهان،واستحوذ على الاهتمام، ورفعه الإعلاميون على أعناقهم مؤكدين بقرب الخلاص على يديه،وكالعادة راحوا يقيمون المؤتمرات ويعدون البرامج ويخوضون بحار الجدل العقيم حول مدلول الشعار القائل ((بناء الإنسان المصري)) وصرفهم المراء عن محاولة وضع تصور التطبيق،وأغرقتهم البرامج في متاهات مظلمة، وتبين بعد وقت، أن الشعار وضع لشغل الناس فترة فقط، بعدها يتميع مذاقه ثم يتلاشى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وحقيق بالنفس أن تشبع حسرة وألماً على تواكب هذه الشعارات دون أن تترك واقعاً من الحقيقة، أو تضع تصوراً للتطبيق، ينقذ الإنسان من وهدته التي قر في قرارها.. ولكن كيف يمكن أن يوضع مثل ذلك التصور وقد استفتى في هذه المسألة القصاصون والأدباء والسينمائيون فيدلي كل برؤياه فيها، ثم لا يطرق باب دعاة الإسلام، الذين يحملون إلى الإنسان رحمة الله به، ومنهجه الإلهي الذي يحقق في الإنسان ذاته، ويحرره من شتى صور العبودية الأرضية المقيتة..؟!
إن أولي الأمر يعلمون حقيقة أن بناء الإنسان لن يكون بالقصص والأدب والبرامج الإذاعية والأفلام، ولن يكون مع من درج على مناهج بشرية وتربى عليها علاج ينتشل الإنسان من معاناته وأمراضه النفسية، وإنما كل ذلك بأيدي رجال الدعوة الإسلامية، لأنه لن يبني الإنسان سوى الإسلام، حين يعالج النفس البشرية. وليست هذه دعوى بغير رصيد، وما كان الرصيد مجهولاً أو منكوراً.. فقد حدث من قبل ولا يزال يبدي نفسه في أرض الواقع العصري، إذا ما طُبق على الوجه الأكمل، لأن الإسلام حين يدخل النفس البشرية يحييها من مواتها، ويشفيها من أمراضها، فالقلب الإنساني لا ينفك عن ثلاثة أحوال هي الحياة والمرض والموت.
فالقلب الحي هو القلب اليقظ الذي يحسن التفاعل مع خالقه، فيقوم بواجبه نحوه، فيهبه الله سكينته ونوره وهداه. والقلب الميت هو قلب انفصل عن خالقه ومحييه، فانطمس نوره،وضل سبيله، والتحف الأغلفة الكثيفة، والأكنة السوداء، فلا يصل إليه نور، ولا ينبعث منه ضياء. وبين القلبين قلب مريض ليس في شفافية الأول، ولا في كثافة الثاني وغلظته، وإنما هو يخبط بينهما، ولا يخلص إلى خير.
وقد صور ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به)) فذكر أن الرسالة المحمدية كالغيث الذي يحيى به الله الأرض بعد موتها، كما قال تعالى: ((وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ*ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الحج: 5-6] وكما قال أيضاً: ((وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)) [النحل:65].. فكما أن الغيث المائي هو الذي يحيى الأرض بعد موتها، فكذلك الوحي القرآني يحيى القلوب بعد موتها، ومصداق ذلك قول الله تعالى: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا.. )) [الأنعام: 122] وكما أن التربة إذا دبت فيها الحياة أنبتت من كل زوج بهيج، وآتت ثماراً طيبة كل حين بإذن ربها، فكذلك الناس إذا وهبوا الحياة، أثمرت قلوبهم المعارف السامية، والمعاني الراقية وتذوقوا السعادة في أرقى مراقيها، واستعلت عقيدتهم عن سفاسف الأمور، فينبت الإصلاح حيثما حلوا، وسمقت بوجودهم قيم وفضائل، وأُرسيت دعائم حضارة لا تحتاج إلى كبير جهد كي توصف بحضارة الإنسان..!
وليس ذلك من قبيل الخيال، والحماسة الجوفاء، لأنه مازال يتحقق في دنيا الواقع، وفي ضمير التاريخ البشري على مر العصور والدهور، سنة الله فيمن يقبل على الإيمان قلبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن النور إذا دخل القلب انفسح وانشرح)) قالوا: وما علامة ذلك؟ قال: (