هداية القرآن
أعظم الهدايات وأوضحها وأقواها
من مقال للدكتور محمد بن محمد أبو شهبة
تحت عنوان [ التفسير العلمي للقرآن الكريم ] نشر مجلة
رابطة العالم الإسلامي بعددها الصادر أول محرم 1395 هـ
يشارك القرآن غيره من الكتب السماوية السابقة في صفة الهداية والتبشير والإنذار ، والدعوة إلى الله والحق والخير ، والنهي عن الضلال والباطل والشر ، وهذا ما لا يسع أحدًا إنكاره ، ولكن هداية القرآن الكريم تمتاز عن غيرها من الهدايات الأخرى بالوضوح والظهور وعدم الخفاء في الدليل وفي الألفاظ وفي المدلول ، وهي المعاني التي تدل عليها هذه الألفاظ ، وليس معنى هذا أنه ليست في القرآن ألفاظ تحتمل معاني متعددة أو إن شئت فقل ألفاظ من قبيل المشترك اللفظي الذي يدل على أكثر من معنى ، ما أردت هذا ، ولا أراده أحد ، ولو أراده لما تأتى له ، ولا سلم .
نعم ، إن في القرآن ألفاظًا من هذا القبيل وهي كثيرة وذلك لأسرار وحكم قد لا يتسع المقام لذكرها الآن ، ولكني أكتفي الآن ببيان أن هذه الألفاظ كانت مجالاً للاجتهاد بين العلماء ومحكًا للبحث والدرس ، والنظر والتأمل ، وقدحًا للعقول في سبيل التوصل إلى المراد من هذه الألفاظ . وسواء منها ما كان متعلقًا بآيات الأحكام والآداب ، أم كان متعلقًا بالآيات الكونية والأنفسية ، وقد اشتملت هذه الآيات الكونية والأنفسية على كثير من الأسرار التي كشف عنها تقدم العلوم الكونية والعلوم النفسية واعتبرت إعجازًا من إعجاز القرآن .
وفي الكتاب الكريم { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ المائدة : 15، 16 ] .
ومعنى بين : أي بين واضح فألفاظه عربية مبينة ، ودلالاته واضحة ظاهرة غير خفية ، وقال تعالى تقريرًا لهذه الحقيقة : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [ البقرة : 185 ] .
فالقرآن ليس هدى فحسب ، ولكن هدايته هي أبين الدلالات وأوضحها وأدلها على المراد ، وأوفقها للفطر ، وأصلح ما تكون هداية وأشدها فرقًا بين الحق والباطل والهدى والضلال . وقال تعالى : { إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا . وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الإسراء : 9، 10 ] .
فطريقته في الهداية هي خير الطرق وأشدها ، وأحكامه وآدابه هي أقوم الأحكام والآداب وأعدلها وأصلحها للعباد والبلاد ، وهذا هو ما تدل عليه كلمة ( أقوم ) والإبهام صادف محز البلاغة وجعل النفس تذهب في تفسيره كل مذهب .
فلا عجب بعد هذا البيان الموجز لهداية القرآن أن كانت السعادة الحقة لا تنال إلا بالاهتداء بهديه ، والتزام ما جاء به ، وإن كان الدواء الناجع الذي ليس بعده دواء لأمراض القلوب والنفوس ، وأمراض المجتمع والشفاء الذي ليست بعده نكسة أو مرض فاهتدت به القلوب بعد ضلال ، وأبصرت به العيون بعد عمى ، واستنارت به العقول بعد جهالة ، واستضاءت به الدنيا بعد ظلمات ، وصحت به البشرية بعد أمراض ، وصدق الله : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] .
وتأملوا في كلمة ( شفاء ) فالتنوين فيها للتنويع أو للتعظيم أو للتعميم . فلتذهب النفس في تفسيره أي مذهب .
( الثاني ) ليكون معجزة النبي محمد ( العظمى ، وآيته الكبرى الباقية على وجه الدهر ، وقد اقتضت حكمته ورحمته أن يكون لكل نبي آية أو آيات تدل على صدقه في دعوى الرسالة ، وهي بعد ظهورها وعجز الناس عن معارضتها قائمة مقام قول الحق تبارك وتعالى : (( صدق عبدي فيما يبلغ عني )) .
وقد شاءت حكمة الله أيضًا أن تكون آيات الأنبياء ومعجزاتهم موائمة ومناسبة لما اشتهر وبرع فيه الناس في أزمانهم وأن يكون النبي الذي ظهرت على يديه متفردًا في هذا الشيء الذي اشتهر ، ولا متفوقًا فيه عن غيره من الناس ، بل هو مثلهم في هذا وواحد منهم حتى إذا ما عجزوا جميعًا عن أمر وهو فيه سواء كان ذلك أدل على أن هذا الذي ظهر على يديه ليس من عند نفسه ولا من عند بشر ، وإنما هو من عند الله خالق القوى والقدر .
وقد كانت معجزات الأنبياء السابقين حسية ، وذلك لأن رسالاتهم كانت محدودة بحدود الزمان والمكان ، فهي إلى قوم مخصوصين ورسالة كل نبي تنتهي برسالة من جاء بعده من الرسل . أما نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه ، فقد أعطى من المعجزات الحسية مثل ما أوتى الأنبياء السابقون ، بل وأكثر مما أوتوا ، وذلك كمعجزتي الإسراء وال