نفحات قرآن
بقلم بخاري أحمد عبده
بسم الله الرحمن الرحيم
((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ*فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ*وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ*يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ*إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ*وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ*يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ))[المائدة: (51-57)].
استروحنا – في غمرة نفحات قرآنية سابقة – من شميم هذه الآيات،ووعدنا يومئذٍ بعود قريب إليها، لا لنستفرغ شحنتها، فذلك أمر علينا عسير، ولكن لنخطف الخطفة، ونريح الروح، ونقنع منها بالقبس، يكشف جنبات الطريق المظلم لأمة تتخبط بين لابتيه، وتضرب في التيه.
والقرآن – كما نعلم – منحة السماء للأرض، يقيم الله به الكيان، ويجلو الوجدان، ويضع الآصار، ويحطم الأغلال، ويسوس الناس، ويرشد علاقات الخلق بالخالق، والناس بالناس. وعملية الترشيد هذه تقتضي سياحة بين الأمم مع القرآن،ورصداً لخطا السابلة، قرباً أو بعداً عن الصراط. وتقتضي وقوفاً متأنياً أمام صور المواجهة بين الحق، والباطل، وأمام مظاهر العدوان على الأديان.
وفي هدي هذا الترشيد، يستطيع المسلم أن يقوم من حوله، وما حوله، ثم ينهج – مع نفسه ومع الآخرين – نهج الله الذي ارتضاه، بلا إفراط، ولا تفريط، ولا تحريف، ولا تبديل، يمتح(1) من معين الله بقوة، ويفري(2) فريه في عبقرية، بلا وهن،ولا هوان، ودون أن يخشى في الله لومة لائم، أو تمنعه رهبة الناس أن يقول بحق إذا علم، مصداق ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمسلم من هذا المقام المرموق الزاخر بالهدايات، يرى أعداءه قماء(3)، ويبصرهم – وقد انحسر عنهم غطاء الحق – عرايا مجردين فيكيف نفسه طبقاً لما تيسر من رؤية عميقة واضحة، ويتعامل بفطنة ومرونة واعية مع كل الجبهات التي تتنكر الحق، وتكيد وتمكر.
من سورة المائدة
وآياتنا المدنية هذه تشهد بقوة المسلمين، واكتمال مقومات الاستقلال، والاكتفاء الذاتي فيهم، وتشهد بقدرتهم على نبذ التبعية والدوران في فلك أهل الكتاب.
وهي آيات من سورة المائدة التي تتضافر آياتها كي تسحج قوى المسلم، وتقيمه مقام رفق، وعلم، ووعي، وثبات، حتى يتعامل مع الكون والكائنات بقوة عاقلة، وعلى هدي وبصيرة.
والمائدة – فيما يروى – من آخر سور القرآن عهداً بالسماء وفاقاً لما ذكر الإمام أحمد والنسائي، ورواه الحاكم عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت عليَّ عائشة رضي الله عنها، فقالت لي: يا جبير، تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما أنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه.
ومعنى هذا أن السورة نزلت بعد شكم الأعداء، واندحار قوى الكفر، وتقهقرهم.
والتقهقر لا يعني الموت. بل قد يكون تحفزاً لوثوب وشيك، فلا بد أن يكون في الحسبان احتمال استجماعهم لقواهم، ومواجهتهم المسلمين من جديد بكل ما جبلوا عليه من شراسة وغيظ.
فلا عجب – إذن – إذا حرص القرآن على رسم صورة واضحة المعالم لأهل الكتاب، ولسائر الأعداء حتى تظل ذخيرة للأجيال، منذرة، مذكرة على مر الدهور، وحتى يظل المسلمون آخذين وضع الاستعداد، في رباط إلى يوم القيامة.
هذا على القول بأن المائدة نزلت برمتها دفعة واحدة، وفقاً لما أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذة بزمام العضباء – ناقة رسول الله – إذ نزلت عليه المائدة كلها فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.
وظني، أن هذا لا يمنع من استثناء آيات نزلت من قبل ذلك تغطية