نظرة عامة في تاريخ التدوين عند العرب
بقلم: فضيلة الشيخ محمد أبو الفضل إبراهيم
لقد تهيأ للأمة العربية من وسائل الثقافة والمعرفة وأسباب التفوق والنبوغ ما لم يتهيأ لغيرها من الأمم والشعوب. دين سمح كريم، سما بهم إلى أبعد الغايات، وأطلق عقولهم من أسر الجهل والخرافات، وكتاب عربي مبين، اشتمل على أكرم المقاصد وأنبل الأغراض، فكان هداية للسارين، وشفاء ورحمة للمؤمنين، ولغة طيعة ذلول، استطاعت- بما فيها من ثراء وغناء، ومرونة واستعداد للنماء- أن تعبر عن سرائر النفوس وخلجات القلوب، وأن تفي بحاجات العلوم والفنون، وأن تساير أحدث المخترعات في كل زمان ومكان، وأرض مترامية الأطراف، فسيحة الجنبات، حوت من موارد الثروة ومقومات الدول وروافد الذخيرة والعتاد ما لا يتيسر لغيرها من البلاد.
– وكانت الأمة العربية في الجاهلية محصورة في مكان محدود ولم يكن معروفًا عندهم من العلوم إلا الرواية والخبر، وشيء من النجامة وأمشاج من الطب وقليل من المعارف مما اقتبسوه من الفرس والهنود.
ثم جاء الإسلام، وبُعِثَ محمد عليه السلام، ولم يكد يمضي على ظهوره سوى قرن من الزمان. حتى انبسطت للعرب دولتهم، واتسعت رقعة بلادهم، وامتدت من فرغانة والصين والهند شرقًا، إلى مصر وأفريقية وما بعد بلاد الأندلس غربًا، فكان هذا الفتح من أعجب الظواهر الاجتماعية في التاريخ.
– وواكب هذه الوثنية السياسية نهضة علمية أثارت الدهشة والإعجاب: أخذوا يتدارسوون القرآن، واستمدوا منه أصول العبادة والتشريع، ووضعوا لحفظه قواعد النحو والتصريف والرسم والقراءات، وصرفوا همتهم لبيان إعجازه، فأقاموا موازين البلاغة والنقد، واستطردوا لفنون الأدب، ووضعوا في ذلك الكتب والأسفار.
– ثم عمدوا إلى الحديث فدونوه عن الصحابة والتابعين والرواة، وأنشأوا لنقده علوم المصطلح والجرح والتعديل وتراجم الرجال ما جعل الأحاديث النبوية مصدرًا آخر من مصادر التشريع، ومنبعًا من منابع الحكمة ومكارم الأخلاق وصنوف السلوك والآداب.
– ثم قصدوا إلى اللغة فجمعوها من أفواه الرواة في الحواضر والأعراب في البوادي، وصنعوا الفهارس والمعاجم، وميزوا العربي من الدخيل، خشية عليها من عوامل المسخ والفناء والخطأ والضياع.
– وعلى كثرة المسلمين وتعدادهم وتنقلهم في البلاد، وتجدد الأحوال، ووقوع شتى الأحداث، أرادوا أن يميزوا بين حلالهم وحرامهم، وما هو صالح لهم في أمر دينهم ودنياهم، فعنوا أشد العناية بالفقه والتشريع طبقًا لما يجد من الأحوال، وما يعرض على الزمن من أمور، وظهرت المذاهب المختلفة، والآراء المتعددة، وكلهم يستمد من القرآن والحديث، ويعتمد على القياس والاستحسان، ووضعوا في ذلك المصنفات الطوال، فكان كتاب المبسوط في فقه أبي حنيفة،والمدونة والذخيرة في فقه مالك، والحاوي في فقه الشافعي، والمغني في فقه ابن حنبل، وغير ذلك من الكتب السائرة المشهورة ( هذه نظرة عامة في تدوين المؤلفات الفقهية لا تعني أننا نؤيد ما عليه الأكثرون الآن من اتباع مذاهب معينة، فقد اجتهد أئمة المذاهب- رحمهم اللَّه- في ظروف دعتهم إلى ذلك، ولكنهم لم يأمروا أحدًا باتباعهم. والذي فرضه اللَّه علينا هو اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ( رئيس التحرير ) ).
كما أنهم تدارسوا تاريخ الأمم والشعوب، وحياة الرسل والخلفاء والملوك. ووضعوا في ذلك كتب السير والمغازي والفتوح، وكان من أعلام المؤلفين ابن أبي إسحق وابن هشام وابن سعد والواقدي واليعقوبي والطبري والمسعودي وابن خلدون.
– ولما اتصلوا بالفرس وامتزجوا باليونان والروم، بالفتح أو الغزو أوالجوار، أخذوا في ترجمة علومهم وفنونهم، في الطب والهندسة والفلك والرياضيات، وتمثلوا معارفهم أصدق تمثل، ثم ألفوا في كل هذا وأبدعوا، حتى الأسمار والخرافات كان لهم فيها جولة ونصيب: وفي قصص ألف ليلة وليلة من روعة الخيال وسحر القصص شيء عجيب. وبكل هذا أصبحت حضارتهم ممتزجة بحضارات الأمم كلها، وغدت معاهد بغداد وبخاري والقاهرة والاسكندرية وغرناطة وصقلية تقصد من كل مكان.
– وعلى مر الزمان تفشت الكتابة وتيسر الورق والقلم والمداد، وظهر ما كان يسمى قديمًا بالوراقة، فما تكاد الكتب تصدر عن مؤلفيها حتى يسارع الوراق، والنساخون إلى كتابتها، فيستطير أمرها، ويسير على الأفواه ذكرها، فيسارع العلماء والأمراء والملوك إلى اقتنائها، وكثرت هذه الكتب، وامتلأت بها خزائن العراق والشام والمغرب والأندلس في شتى المعارف والفنون والآداب.
روي أن الرشيد لما ركب إلى الرقة في بعض أسفاره حمل معه ثمانية عشر صندوقًا مملوءة كتبًا، ليقطع الطريق بالقراءة فيها، وكان الصاحب بن عباد يصحب في أسفاره ثلاثين جملاً تحمل عليها كتبه. ولما أنشأ الرشيد بيت الحكمة ببغداد جمع فيه ما نقل إلى العربية مما ترجم من اللغات الأخرى، وما ألف من العلوم الإسلامية إلى عهده. ولما تولى المأمون جمع في هذا البيت كتب العلوم بلغاتها،