مناقشة هادئة في حديث الذباب
بقلم الأستاذ: الدكتور أمين رضا
أستاذ جراحة العظام والتقويم
جامعة الإسكندرية
في جريدة الجمعة من جريدة الأخبار يوم 18/3/1977 رفض أحد الأطباء الزملاء حديث الذبابة على أساس التحليل العلمي العقلي لمتنه. لا على أساس سنده.
وامتدادًا للمناقشة الهادئة التي بدأتها هذه الجريدة أرى أن أعارض الزميل الفاضل بما يأتي:
1- ليس من حقه أن يرفض هذا الحديث أو أي حديث نبوي آخر لمجرد عدم موافقته للعلم الحالي. فالعلم يتطور ويتغير. بل ويتقلب كذلك. فمن النظريات العلمية ما تصف شيئًا اليوم بأنه صحيح. ثم تصفه بعد زمن قريب أو بعيد بأنه خطأ. فإذا كان هذا هو حال العلم فكيف يمكننا أن نصف حديثًا بأنه خطأ قياسًا على نظرية علمية حالية. ثم نرجع فنصححه إذا تغيرت هذه النظرية العلمية مستقبلاً؟
* * *
2- ليس من حقه رفض هذا الحديث أو أي حديث آخر لأنه ( اصطدم بعقله اصطدامًا ) على حد تعبيره. فالعيب الذي سبب هذا الاصطدام ليس من الحديث بل من العقل. فكل المهتمين بالعلوم الحديثة يحترمون عقولهم احترامًا عظيمًا. ومن احترام العقل أن نقارن العلم بالجهل. العلم يتكون من أكداس المعرفة التي تراكمت لدى الإنسانية جمعاء بتضافر جهودها جيلاً بعد جيل لسبر أغوار المجهول. أما الجهل فهو كل ما نجهله، أي ما لم يدخل بعد نطاق العلم. وبالنظرة المتعقلة نجد أن العلم لم يكتمل بعد. وإلا لتوقف تقدم الإنسانية. وأن الجهل لا حدود له. والدليل على ذلك تقدم العلم وتوالي الاكتشافات يومًا بعد يوم من غير أن يظهر للجهل نهاية. إن العالم العاقل المنصف يدرك أن العلم ضخم ولكن حجم الجهل أضخم. ولذلك لا يجب أن يغرقنا العلم الذي بين أيدينا من الغرور بأنفسنا. ولا يجب أن يعمينا علمنا عن الجهل الذي نسبح فيه. فإننا إذا قلنا إن علم اليوم هو كل شيء. وإنه آخر ما يمكن الوصول إليه أدى ذلك بنا إلى الغرور بأنفسنا، وإلى التوقف عن التقدم، وإلى البلبلة في التفكير. وكل هذا يفسد حكمنا على الأشياء، ويعمينا عن الحق حتى لو كان أمام عيوننا، ويجعلنا نرى الحق خطأ، والخطأ حقا. فتكون النتيجة أننا نقابل أمورًا تصطدم بعقولنا اصطدامًا. وما كان لها أن تصطدم لو استعملنا عقولنا استعمالاً فطريًا سليمًا يحدوه التواضع والإحساس بضخامة الجهل أكثر من التأثر ببريق العلم والزهو به.
* * *
3- ليس صحيحًا أنه لم يرد في الطب شيء عن علاج الأمراض بالذباب. فعندي من المراجع القديمة ما يصف وصفات طبية لأمراض مختلفة باستعمال الذباب. أما في العصر الحديث فجميع الجراحين الذين عاشوا في السنوات العشر التي سبقت اكتشاف مركبات السلفا- أي في السنوات العشر الثالثة من القرن الحالي- رأوا بأعينهم علاج الكسور المضاعفة والقرحات المزمنة بالذباب. وكان الذباب يربى لذلك خصيصًا. وكان هذا العلاج مبنيًا على اكتشاف فيروس البكتريوفاج القاتل للجراثيم. على أساس أن الذباب يحمل في آن واحد الجراثيم التي تسبب المرض، وكذلك البكتريوفاج الذي يهاجم هذه الجراثيم. وكلمة بكتريوفاج هذه معناها ( آكلة الجراثيم ). وجدير بالذكر أن توقف الأبحاث عن علاج القرحات بالذباب لم يكن سببه فشل هذه الطريقة العلاجية. وإنما كان بسبب اكتشاف مركبات السلفا التي جذبت أنظار العلماء جذبًا شديدًا. وكل هذا مفصل تفصيلاً دقيقًا في الجزء التاريخي من رسالة الدكتوراه التي أعدها الزميل الدكتور أبو الفتوح مصطفى عيد تحت إشرافي عن التهابات العظام والمقدمة لجامعة الإسكندرية من حوالي سبع سنوات.
* * *
4- في هذا الحديث إعلام بالغيب عن وجود سم في الذباب. وهذا شيء لم يكتشفه العلم الحديث بصفة قاطعة إلا في القرنين الأخيرين. وقبل ذلك كان يمكن للعلماء أن يكذبوا الحديث النبوي لعدم ثبوت وجود شيء ضار على الذباب. ثم بعد اكتشاف الجراثيم يعودون فيصححون الحديث.
* * *
5- إن كان ما نأخذه على الذباب هو الجراثيم التي يحملها فيجب مراعاة ما نعلمه عن ذلك:
(أ) ليس صحيحًا أن جميع الجراثيم التي يحملها الذباب جراثيم ضارة أو تسبب أمراضًا.
(ب) ليس صحيحًا أن عدد الجراثيم التي تحملها الذبابة أو الذبابتان كاف لأحداث مرض فيمن يتناول هذه الجراثيم.
(جـ) ليس صحيحًا أن عزل جسم الإنسان عزلاً تامًا عن الجراثيم الضارة ممكن. وإن كان ممكنًا فهذا أكبر ضرر له. لأن جسم الإنسان إذا تناول كميات يسيرة متكررة من الجراثيم الضارة تكونت عنده مناعة ضد هذه الجراثيم تدريجيًا.
6- في الحديث إعلام بالغيب عن وجود شيء على الذباب يضاد السموم التي تحملها. والعلم الحديث يعلمنا أن الأحياء الدقيقة من بكتريا وفيروسات وفطريات تشن الواحدة منها على الأخرى حربًا لا هوادة فيها. فالواحدة منها تقتل الأخرى بإفراز مواد سامة. ومن هذه المواد السامة بعض الأنواع التي يمكن استعمالها في العلاج. وهي ما نسميه ( المضادات الحيوية ) مثل البنسلين والكلوروميستين وغ