من روائع الماضي
مع الصادقين
للأستاذ الكبير أبي الوفاء محمد درويش (رحمه الله)
(يا رسول الله ؛ إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر . لقد أوتيت جدلاً . ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ، ليوشكن الله أن يسخطك عليّ ، وإن حدثتك حديث صدق تجد فيه عليّ ، إني لأرجو فيه عقبى (1) الله عز وجل ، والله ما كان لي من عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ) .
هكذا أجاب كعب بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة العسرة وجلس للناس وجاء المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون ، فقبل منهم علانيتهم ، وبايعهم واستغفر لهم ووكل أسرارهم إلى الله . وجاء كعب ، وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فتبسم صلى الله عليه وسلم تبسم الغضب ثم قال له : (تعال) فجاء يمشى حتى جلس بين يديه فقال له : ما خلّفك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ فرأى رضي الله عنه أن الكذب غير خليق بالمؤمن الصادق الإيمان ؛ القوى اليقين ، وأن الصدق سبيل النجاة في الدنيا والآخرة ؛ وأن الرجل النبيل الشريف الذي يحترم نفسه ويربأ بها عن الدنيات لا يجمل به أن يلوثها بحمأة الكذب ، فاستنصر شجاعته ، واستعان شهامته ، واستجمع قواه ، ولاذ بإيمانه ويقينه ، وأرسله اعترافًا صريحًا كله شجاعة وكله صدق ، وكله إيمان .
فيا لروعة الحق ! ويا لجمال الصدق ! ويا لقوة الإيمان !
ولعلك تريد أن تعرف حقيقة الصدق ، حتى لا يلتبس عليك الأمر ، ولا يختلط عليك بألوان من الكذب يبرجها الشيطان بزينة الصدق ؛ فتخفى على الغافلين عن خدعه ومكايده :
الصدق هو الإخبار عن الشيء على ما هو عليه بغير زيادة عليه ولا نقص منه أو هو أن تخبر بما تعتقد اعتقادًا حازمًا قائمًا على أساس صحيح أنه الحق ، أو هو أن تقول الحق كله وألا تقول شيئًا غيره .
وهذه هي الحدود التي تحدد الصدق وتميزه من غيره فيما أرى ولعل بعضها أوضح من بعض . ولكنها لا تدع للكذب مدخلًا إليه .
فمن أخبر عن شيء بغير ما هو عليه في واقع الأمر ؛ بل زاد عليه أو نقصه منه أو غيره . فهو كاذب . ومن أخبر بغير ما يعتقد أنه الحق فهو كاذب . ومن أخبر بما يعتقد أنه الحق ، ولكن اعتقاده لا يستند إلى حجة صحيحة ، ولا بينة مقنعة فهو كاذب كان الكفار والمشركون يخبرون بما يعتقدون أنه الحق طوعًا للعقيدة العامة ؛ واتباعًا للآباء والأجداد ؛ وجريًا مع البيئة التي نشأوا فيها . ولم يكن اعتقادهم مبنيًا على أساس صحيح ، وكان أدنى تأمل يكفى لهدمه ، وأقل إعمال للعقل يقوضه ، ويذهب به . ولهذا اعتبرهم الله كاذبين وقال تعالى : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ) . وقال تعالى : ( وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) .
شاع بين الناس تعريف للصدق وهو قولهم : الصدق أن تقول ما تعتقد أنه الحق . ولا أرى هذا التعريف مانعًا ، كما يقول أصحاب المنطق – لأنه يدخل في الصدق ألوانًا عدة من الكذب .
ولأضرب لك أمثلة تعينك على الوقوف على حقيقة الصدق ، وتميزه لك من الكذب في سهولة ويسر .
من قال لك : إن في العبادة بدعة حسنة فهو كاذب ، وإن كان يعتقد ذلك لأن اعتقاده باطل لا يقوم على بينة ، ولا يستند إلى نص من كتاب الله ؛ ولا سنة صحيحة عن رسوله صلى الله عليه وسلم . بل النصوص تثبت أن كل بدعة في الدين : في العقيدة ، أو العبادة . فهي ضلالة .
ومن قال لك : إن آدم عليه السلام توسل بمحمد صلى الله عليه وسلم يوم عهد الله إليه فنسى فهو كاذب . وإن كان يعتقد ذلك ، لأن اعتقاده ليس له سند صحيح ، وأدنى شيء من البحث المقرون بالحرص على الحق يهدم هذا الاعتقاد ، فإن القرآن الكريم جاء بنص صريح لا غموض فيه ولا إبهام يدل على أن آدم وزوجه توسلا إلى الله بتوبتهما واعترافهما بخطئهما وظلمهما لأنفسهما والتجائهما إلى مغفرة الله ورحمته قال تعالى في سورة البقرة : ( فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) وقال تعالى في سورة الأعراف مفسرًا هذه الكلمات : ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) .
ومن قال لك : إن جماعة أنصار السنة المحمدية يحرمون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو كاذب مفتر ، لأن جماعة أنصار السنة لا يحرمون عبادة أمر الله تعالى بها في كتابه الكريم . قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَل


