مذكرات صوفي سابق
الحلقة الثالثة
وكان الوالد دائم التجهم لابنه، لا يسر لنجاح يحققه، أو توفيق يصيبه بل كان جل أمانيه أن ( يهتدي ابنه إلى سواء السبيل، وأن يراه علما بين الأقطاب ).
وكما كان الفتى دهشا عندما استدعاه والده مبتسما وهو يقول- يا بني لقد جئتك بما أن تمسكت به لن تضل أبدا، كتاب ( فصوص الحكم ) لابن عربي. و(طبقات الصوفية ) للسلمي، وهما من جلة شيوخنا الأغواث أئمة هذا الفن فأقرأهما يا بني بذوقا نيتك، وأقبل عليهما بوجدانيتك، ينكشف لك ما فيهما من فيوضات.
وكان الابن قد قرأ هذين الكتابين، وامثالهما، ووقف على ما فيها من دخائل الشرك، وكبائره وصغائره. ولكن فكرة رائعة وأتته فأقبل على أبيه مبتسما وقال:
– حسنا يا أبي سأقرؤهما، وأستعين بالله.
وقبل يد والده وانصرف، وعينا أبيه تطفحان بالبشر فقد أضحى على يقين أن اليوم الذي سيلقن فيه العهد لأبنه ليس ببعيد
* * *
وبعد أيام أقبل الوالد على ولده هاشا يقول
أحسبك يا ولدي فرغت من قراءاتك.
الأبن: الحمد لله، فرغت منها منذ ساعة.
الوالد: لعل الله قد هداك إلى الحق يا بني.
الابن: أجل يا أبي، وزادني الله هدى.
فأسرع الرجل يحتضن أبنه ويقبله في سعادة هو يقول:
– إذن فلنحتفل بهذه البشرى الليلة بعد صلاة العشاء، حيث تعلن للإخوان في “الحضرة” ميلاد مريد جيد.
واكتملت ” الحضرة” عن آخرها، وجلس المريدون وقد تحلقوا شيخهم.. وأتجهت الأنظار إلى ذلك المريد الجديد. وتحدث الوالد قائلا.
– يا أولادي هذا ولدي- كما تعرفون- من ظلاب الأزهر، ولعله من حسن الطالع أن يهتدي إلى الطريق قبيل حصوله على الأجازة العالية بعد أيام إن شاء الله، فيكون الله سبحانه قد تجلي عليه بفيوضات أهل التصوف بعد ما أيقن أن أهل الظاهر ليسوا على شيء، والآن أيها الشيخ الجديد، هات ما عندك.
الابن: بسم الله الرحمن الرحيم- أيها الأخوان: إن الإسلام دين سمح كريم، ولا حد لفضل الله وكرمه، ومن أجدر برضوان الله من أوليائه وأصفيائه، وصدق الله العظيم: ?ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.
( وهنا تصايح الحاضرون: عظيم.. عظيم.. فتح الله عليك يا مولانا ).
الأبن: وما دمنا متمسكين بمبادئ الإسلام الأساسية، فلا حرج علينا أن نجتهد بما يرضى سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، وهنا أحب أن أستوثق من شيخنا الجليل ومنكم عن بعض الأشياء حتى نسير على الطريق بيقين راسخ بمشيئة الله تعالى.
إن أهل التذوق صرحوا أن التصوف جوهر الإسلام، أليس كذلك يا أبي؟
الأب: بلى.
الابن: ولا شك أنه مستمد من القرآن الكريم، وسنة سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، أليس كذلك؟
الوالد: بلى.
الأبن: وكلنا مؤمنون بما جاء في القرآن الكريم، هل يشك أحد منا في ذلك؟
الجميع: حاشا لله.. حاشا لله.
الابن: وقد جاء في القرآن: أن الله موجود، وأن ليس كمثله شيء وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وأن أكبر الكبائر الشرك بالله، وأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل رحمه للعالمين، وخاتما للأنبياء والمرسين، وكلنا بذلك مؤمنون، أليس كذلك؟
الجميع: بلى، نؤمن بذلك.
الابن: ونرفض ما عداه لأنه ضد الإسلام، أليس كذلك؟
الجميع: بلى نرفض ما عداه، ونجاهد من أجل ذلك.
الابن: الحمد لله. لقد أطمأن الآن قلبي، والآن أيها الإخوان لقد دفع إلي والدي كتابين استمتعت بقراءتهما، وأرجو أن نستمتع جميعا في هذه ” الحضرة” المباركة بقراءة ما تيسر منهما.
واختار ( المريد الجديد ) أحد الجالسين، وكان أحدث المريدين، ودفع إليه كتاب (فصوص الحكم ) وقال:
– أقرأ علينا ص 374 من فصوص الحكم، وتأن في قراءتك.
المريد يقرأ: ( أن الله هو الوجود الحق، والعدم الصرف، هو الخلاق والمخلوق، وأن اليهود عباد العجل ناجون، بل كانوا على علم بحقيقة الألوهية أكثر من موسى وهرون لأنهم آمنوا بالله عندما تجلى في العجل ).
وهنا توقف المريد، قائلا:- ما معنى ذلك؟
الابن: معنى ذلك أن الله لا يعرف وجوده إلا إذا تجسد في شيء نراه بأعيننا، وكل شيء نراه بأعيننا تجسد فيه الله، ألم تسمع لشيخ الأقطاب ابن عربي وهو يقول ( هو الخلاق والمخلوق )؟ ولكن لا تتعجل، ارجع بنا إلى ص 195 من الجزء الأول من فصوص الحكم:
المريد يقرأ: ( العارف المكمل من رأي كل معبود مجلى للحق، معبد فيه ولذلك سموه كلهم إلها مع أسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك ).
وتوقف المريد ثانيا وسأل:
– معنى ذلك أن الذين يعبدون الأحجار والأشجار والحيوان والإنسان والكواكب والملائكة ناجون، وليسوا كفارا؟.
الابن ( متصنعا الدهشة ) كفار ! استغفر الله يا هذا، وكيف يكونون كفارا وشيخنا الأكبر ابن عربي يقول في إحاطة العارف.
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
فأصبح قلبي قابلا كل صورة